الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
.الضرب الثاني من الأموال الديوانية بالديار المصرية غير الشرعي: النوع الأول: ما يختص بالديوان السلطاني: وهو صنفان: الصنف الأوّل: ما يؤخذ على الواصل المجلوب: وأكثره متحصلاً جهتان: الجهة الأولى ما يؤخذ على واصل التجار الكارمية من البضائع في بحر القلزم من جهة الحجاز واليمن وما والاهما، وذلك بأربعة سواحل البحر المذكور الساحل الأول- عيذاب وقد كان أكثر السواحل واصلاً لرغبة رؤساء المراكب في التعدية من جدة إليه، وإن كانت باحته متسعة لغزارة الماء وأمن اللحاق بالشعب الذي ينبت في قعر هذا البحر، ومن هذا الساحل يتوصل إلى قوص بالبضائع ومن قوص إلى فندق الكارم بالفسطاط في بحر النيل. الساحل الثاني- القصير وهو في جهة الشمال عن عيذاب، وكان يصل اليه بعض المراكب لقربه من قوص وبعد عيذاب منها؛ وتحمل البضائع منه إلى قوص؛ ثم من قوص إلى فندق الكارم بالفسطاط على ما تقدم، وإن لم يبلغ في كثرة الواصل حد عيذاب. الساحل الثالث- الطور وهو ساحل في جانب الرأس الداخل في بحر القلزم بين عقبة أيلة وبين بر الديار المصرية، وقد كان هذا الساحل كثير الواصل في الزمن المتقدم، لرغبة بعض رؤساء المراكب في السير إليه، لقرب المراكب فيه من بر الحجاز حتى لايغيب البر عن المسافر فيه وكثرة المراسي في بره، متى تغير البحر على صاحب المركب وجد مرساة يدخل إليها، ثم ترك قصد هذا الساحل والسفر منه بعد انقراض بني بدير العباسية التجار، ورغب المسافرون عن السفر فيه لما فيه من الشعب الذي يخشى على المراكب بسببه، ولذلك لايسافر فيه الا نهارا، وبقي على ذلك إلى حدود سنة ثمانين وسبعمائة، فعمر فيه الأمير صلاح الدين بن عرام رحمه الله، وهو يومئذ حاجب الحجاب بالديار المصرية مركباً وسفرها، ثم اتبعها بمركب آخر فجسر الناس على السفر فيه وعمروا المراكب فيه، ووصلت إليه مراكب اليمن بالبضائع، ورفضت عيذاب والقصير، وحصل بواسطة ذلك حمل الغلال إلى الحجاز، وغرزت فوائد التجار قي حمل الحنطة إليه. الساحل الرابع- السويس على القلب من مدينة القلزم الخراب بساحل الديار المصرية. وهو أقرب السواحل إلى القاهرة والفسطاط إلا أن الدخول إليه نادر، والعمدة على ساحل الطور كما تقدم. قلت وهذه السواحل على حد واحد في أخذ المرتّب السلطاني، وقد ذكر في قوانين الدواوين: أن واصل عيذاب كان استقر فيه الزكاة. أما الذي عليه الحال في زماننا، فإنه يؤخذ من بضائع التجار العشر مع لواحق أخرى تكاد أن تكون نحو المرتب السلطاني أيضاً. واعلم أنه قد تصل البضائع للتجار المسلمين إلى ساحل الإسكندرية ودمياط المتقدم ذكرهما، فيؤخذ منها المرتب السلطاني على ما توجبه الضرائب. الجهة الثانية ما يؤخذ على واصل التجار بقطيا في طريق الشام إلى الديار المصرية وعليها يرد سائر التجار الواصلين في البر من الشام والعراق وما والاهما، وهي أكثر الجهات متحصلاً وأشدها على التجار تضييقاً وعندهم ضرائب مقررة لكل نوع يؤخذ عن نظيرها. الصنف الثاني: ما يؤخذ بحاضرة الديار المصرية: بالفسطاط والقاهرة: وهو جهات كثيرة، يقال إنها تبلغ اثنتين وسبعين جهة؛ منها ما يكثر متحصّله ومنها ما يقل، ثم بعضها ما يتحصل من قليل وكثير، وبعضها لها ضمان بمقدار معين لكل جهة، يطلب بذلك المقدار إن زادت الجهة فله وإن نقصت فعليه. قلت: وقد عمت البلوى بهذه المكوس، وخرجت في التزيد عن الحد، ودخلت الشبهة في أموال الكثير من الناس بسببها. وقد كان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله في سلطنته قد رفع هذه المكوس ومحا آثارها، وعوضه الله عنها بما حازه من الغنائم وفتحه من البلاد والأقاليم، وربما وقع الإلهام من الله تعالى لبعض ملوك المملكة برفع المظلمة الحاصلة منها. ومن أعظم ذلك خطراً وأرفع أجراً ما فعله السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون تغمده الله تعالى برحمته من بطلان مكوس الملاهي والقراريط على الأملاك المبيعة. النوع الثاني:ما لا اختصاص له بالديوان السلطاني: وهي المكوس المتفرقة ببلاد الديار المصرية فتكون تابعة للإقطاع إن كانت تلك البلد جارية في ديوان من الدواوين السلطانية فمتحصلها لذلك الديوان، أو جارية في إقطاع بعض الأمراء ونحوهم فمتحصلها لصاحب الإقطاع، ويعبّر عنها في الدواوين بالهلالي كما يعبّر عما يؤخذ من أجرة الأرضين بالخراجي. .الطرف الرابع في ترتيب المملكة: الحالة الأولى ما كانت عليه في زمن عمّال الخلفاء: من حين الفتح إلى آخر الدولة الإخشدية؛ ولم يتحرر لي ترتيبها، والظاهر أنه لم يزل نّوابها وأمراؤها حينئذ على هيئة العرب إلى أن وليها أحمد بن طولون وبنوه وأحدثوا فيها ترتيب الملك. على أنه كان أكثر عسكره من السودان، حتّى يقال إنه كان في عسكره آثن عشر ألف أسود، وتبعتهم الدولة الإخشدية على ذلك إلى آخر دولتهم. الحالة الثانية من أحوال الديار المصرية ما كانت عليه في زمن الخلفاء الفاطميين: وينحصر المقصود من ترتيب مملكتهم في سبع جمل: الجملة الأولى في الآلات الملوكية المختصة بالمواكب العظام: وهي على أصناف متعددة: منها التاج. وكان ينعت عندهم بالتاج الشريف، ويعرف بشدّة الوقار. وهو تاج يركب به الخليفة في المواكب العظام، وفيه جوهرة عظيمة تعرف باليتيمة زنتها سبعة دراهم ولا يقوّم عليها لنفاستها؛ وحولها جواهر أخرى دونها؛ يلبس الخليفة هذا التاج في المواكب العظام مكان العمامة. ومنها قضيب الملك. وهو عود طول شبر ونصف، ملبّس بالذهب المرصع بالدرّ والجوهر، يكون بيد الخليفة في المواكب العظام. ومنها السيف الخاص. الذي يحمل مع الخليفة في المواكب. يقال إنه كان من صاعقةٍ وقعت وحصل الظّفر بها فعمل منها هذا السيف، وحليته من ذهب مرصعة بالجواهر، وهو في خريطة مرقومة بالذهب لا يظهر إلا رأسه، وله أمير من أعظم الأمراء يحمله عند ركوب الخليفة في الموكب. ومنها الدواة. وهي دواة متخذة من الذهب وحليتها مصنوعة من المرجان على صلابته ومناعته، تلف في منديل شرب أبيض مذهب، ويحملها شخص من الأستاذين في الموكب أمام الخليفة تكون بينه وبين السرج، ثم جعل حملها لعدل من العدول المعتبرين. ومنها الرمح. وهو رمح لطيف في غلاف منظوم باللؤلؤ؛ وله سنان مختصر بحلية الذهب؛ وله شخص مختص بحمله. ومنها الدّرقة. وهي درقة كبيرة بكوابج من ذهب؛ يقولون إنها درقة حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعليها غشاء من حرير؛ ويحملها في الموكب أمير من أكابر الأمراء، له عندهم جلالة. ومنها الحافر. وهي قطعة ياقوت أحمر في شكل الهلال، زنتها أحدعشر مثقالاً، ليس لها نظير في الدنيا، تخاط خياطة حسنة على خرقة من حرير، وبدائرها قضب زمرد ذبابي عظيم الشأن، تجعل في وجه فرس الخليفة عند ركوبه في المواكب. ومنها المظلة التي تحمل على رأس الخليفة عند ركوبه. وهي قبة على هيئة خيمة على رأس عمود كالمظلة التي يركب بها السلطان الآن. وكانت اثني عشر شوزكاً عرض سفل كل شوزك شبر، وطوله ثلاثة أذرع وثلث، وآخره من أعلاه دقيق للغاية بحيث يجتمع الإثنا عشر شوزكاً في رأس عمود بدائرة، وعمودها قنطارية من الزان ملبسة بأنابيب الذهب، وفي آخر انبوبة ثلثي رأس العمود فلكة بارزة مقدار عرض إبهام تشد آخر الشوازك في حلقة من ذهب، وتنزل في رأس الرمح. ولها عندهم مكانة جليلة لعلوها رأس الخليفة، وحاملها من أكبر الأمراء. قال ابن الطوير: وكان من شرطها عندهم ان تكون على لون الثياب التي يلبسها الخليفة في ذلك الموكب، لاتخالف ذلك. ومنها الاعلام. وأعلاها اللواءان المعروفان باواءي الحمد، وهما رمحان طويلان ملبسان بأنابيب من ذهب إلى حد أسنتهما، وبأعلاهما رايتان من الحرير الأبيض المرقوم بالذهب، ملفوفتان على الرمحين غير منشورتين، يخرجان لخروج المظلة إلى أميرين معدين لحملها، ودونهما رمحان برؤوسهما أهلّة من ذهب صامت، في كل واحد منهما سبع من ديباج أحمر وأصفر، وفي فمه طارة مستديرة يدخل فيها الرمح فيفتحان فيظهر شكلهما، يحملهما فارسان من صبيان الخاص، ووراءهما رايات لطاف من الحرير المرقوم ومكتوب عليها: {نصر من الله وفتح قريب} طول كل راية منها ذراعان في عرض ذراع ونصف، في كل واحدة ثلاث طرازات على رماح من القنا، عدتها أبداً إحدى وعشرون راية؛ يحملها أحد وعشرون فارساً من صبيان الخليفة؛ وحاملها أبداً راكب بغلة. ومنها المذبتان وهما مذبتان عظيمتان كالنخلتين ملويتان محمولتان عند رأس فرس الخليفة في الركوب. ومنها السلاح الذي يحمله الركابية حول الخليفة. وهو صماصم مصقولة، ودبابيس ملبسة بالكيمخت الأحمر والأسود، ورؤوسها مدورة، ولتوت حديد كذلك ورؤوسها مستطيلة والآت يقال لها المستوفيات وهي عمد حديد طول ذراعين مربعات الأشكال بمقابض مدورة بعدة معلومة من كل صنف، وستمائة حربة بأسنة مصقولة، تحتها جلب الفضة؛ وثلثمائة درقة بكوابج فضة؛ يحمل ذلك في الموكب ثلثمائة عبد أسود كل عبد حربتان ودرقة واحدة؛ وستون رمحاً طول كل واحد منها سبع أذرع، برأسها طلعة وعقبها من حديد؛ يحملها قوم يقال لهم السريرية يفتلونها بأيديهم اليمنى فتلاً متدارك الدوران؛ ومائة درقة لطيفة؛ ومائة سيف بيد مائة رجل، كل رجل درقة وسيف يسيرون رجالة في الموكب؛ وعشرة سيوف في خرائط ديباج أحمر ةأصفر بشراريب يقال لها سيوف الدم، تكون في أعقاب الموكب برسم ضرب الأعناق إذا أراد الخليفة قتل أحد. وذلك كله خارج عما يخرج من خزانة التجمل برسم الوزير وأكابر الأمراء وأرباب الرتب وأزمّة العساكر لتجملهم في الموكب، وهي نحو أربعمائة راية مرقومة الأطراف، وبأعلاها رمامين الفضة المذهبة، وعدة من العماريات، وهي شبه الكنجاوات ملبسة بالحرير الأحمر والأصفر والقرمزي وغير ذلك، وعليها كوابج الفضة المذهبة، لكل أمير من أصحاب القضب منها عمارية، ويختص لواءان على رمحين منقوشين بالذهب غير منشورين يكونان أمامه في الموكب الى غير ذلك من الآلات التي يطول ذكرها، ويعسر استيعابها. ومنها النقارات. وكانت على عشرين بغلاً، على كل بغل ثلاث مثل نقارات الكوسات بغير كوسات، تسير في الموكب اثنتين اثنتين ولها حس حسن. ومنها الخيام والفساطيط وكان من أعظم خيمهم خيمة تعرف بالقاتول، طول عمودها سبعون ذراعاً، بأعلاه سفرة فضة تسع راوية ماء، وسعتها ما يزيد على فدانين في التدوير، وسميت بالقاتول لأن فرّاشاً سقط من أعلاها فمات. قلت: ولعمري إن هذه لأثرة عظيمة تدل على عظيم مملكة وقوة قدرة، وأنى يتأتى مثل هذه الخيمة لملك من الملوك وإن جلّ قدره وعظم شأنه. الجملة الثانية في حواصل الخليفة: وهي على خمسة أنواع: النوع الأول: الخزائن وهي ثمان خزائن: الأولى- خزانة الكتب. وكانت من أجل الخزائن وأعظمها شأناً عندهم، وكان فيها من المصاحف الشريفة المكتوبة بالخطوط المنسوبة الفائقة عدّة كثيرة، ومن الكتب ما يزيد على مائة ألف مجلد، مشتملة على أنواع العلوم مما يدهش الناظر ويحيره، وربما اجتمع من المصنف الواحد فيها عشر نسخ فما دونها، وكان فيها من الدروج المكتتبة بالخطوط المنسوبة كخط ابن مقلة وابن البواب، ومن جرى مجراهما. الثانية- خزانة الكسوة وهي في الحقيقة خزانتان، إحداهما- الخزانة الظاهرة، وهي المعبر عنها في زماننا بالخزانة الكبرى على ما كانت عليه أولاً، والمعبر عنها بخزانة الخاص على ما استقر عليه الحال آخراً، وكان فيها من الحواصل من الديباج الملون على اختلاف ضروبها، والشرب الخاص الدّبيقي والسّقلاطون، وغير ذلك من أنواع القماش الفاخرة ما يدل على عظم المملكة، وإليها يحمل ما يعمل بدار الطراز بتنّيس ودمياط والإسكندرية من مستعملات الخاص، وفيها يفصل ما يؤمر به من لباس الخليفة، وما يحتاج إليه من الخلع والتشاريف وغير ذلك. الثانية- معدة للباس الخليفة خاصة، وهي المعبر عنها في زماننا بالطشت خاناه، وإليها ينقل القماش المفضل بالخزانة الأولى من قماش الخليفة وغيره. الثالثة- خزانة الشراب. وهي المعبر عنها في زماننا بالشراب خاناه، وكان فيها من أنواع الأشربة والمعاجين النفيسة والمربيات الفاخرة وأصناف الأدوية والعطريات الفائقة التي لا توجد إلا فيها؛ وفيها من الآلات النفيسة والآن ية الصيني من الزبادي والصحون والبراني والأزياء ما لا يقدر عليه ير الملوك. الرابعة- خزانة الطعم. وهي المعبر عنها في زماننا بالحوائج خاناه، وكانت تحتوي على عدة أصناف القلويات من الفستق وغيره والسكر والقند والأعسال على أصنافها والزيت والشمع وغير ذلك، ومنها يخرج راتب المطابخ خاصاً وعاماً، وينفق لأرباب الخدم وأصحاب التوقيعات في كل شهر، ولا يحتاج إلى غيرها إلا في اللحم والخضر. الخامسة- خزانة السروج، وهي المعبّر عنها في زماننا بالركاب خاناه، وكانت قاعة كبيرة بالقصر، بها السروج واللجم من الذهب والفضة، وسائر آلات الخيل مما يختص بالخليفة؛ ثم منها ما هو قريب من الخاص، ومنها ما هو وسط برسم من هو من أرباب الرتب العالية، ومنها ماهو دونّ برسم من هو برسم العواري أيام المواكب لأرباب الخدم. السادسة- خزانة الفرش. وهي المعبر عنها في زماننا بالفراش خاناه؛ وكان موضعها بالقصر بالقرب من دار الملك؛ وكان الخليفة يحضر إليها من غير جلوس ويطوف فيها، ويسأل عن أحوالها، ويأمر بإدامة عمل الاحتياجات وحملها إليها. السابعة- خزانة السلاح. وهي المعبر عنها في زماننا بالسلاح خاناه، فيها من أنواع السلاح المختلفة ما لا نظير له: من الزرديات المغشّاة بالديباج المحكمة الصنعة المحلاة بالفضة، والجواشن المذهبة، والخوذ المحلاة بالذهب والفضة، والسيوف العربيات والقلجورية، والرماح القنا والقنطاريات المدهونة والمذهبة، والأسنة العظيمة والقسي المخبورة المنسوبة إلى أفاضل الصناع، وقسيّ الرجل والركاب، وقسيّ اللولب التي تبلغ زنة نصله خمسة أرطال بالمصري، والنبل الذي يرمى به عن القسيّ العربية في المجاري المصنوعة لذلك. قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: كان يصرف فيها في كل سنة سبعون ألف دينار إلى ثمانين ألف دينار. الثامنة- خزانة التجمل. وهي خزانة فيها أنواع من السلاح يخرج منها للوزير والأمراء في المواكب الألوية والقضب الفضة والعماريات وغيرها. قال آبن الطوير: هي من حقوق خزائن السلاح. وأما خزائن المال فكان فيها من الأموال والجواهر النفيسة، والذخائر العظيمة، والأقمشة الفاخرة ما لا تحصره الأقلام. وناهيك أن المستنصر لما وقع الغلاء العظيم بمصر، أخرج من خزانته في سنة اثنتين وستين وأربعمائة ذخائر تسعها للإعانة على قيام أمر المملكة والجند، فكان مما أخرجه ثمانون ألف قطعة بلور كبار، وسبعون ألف قطعة من الديباج، وعشرون ألف سيف محلى. ولما استولى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على القصر بعد وفاة العاضد، آخر خلفائهم، وجد فيه من الأعلاق الثمينة والتحف ما يخرج عن حد الإحصاء، من جملته الحافر الياقوت المقدم ذكره. ويقال إنه وجد فيه قضيب زمردٍ يزيد على قامة الرجل على ما تقدم ذكره في الكلام على الأحجار الملوكية في أثناء المقالة الأولى، ووجد فيه أيضاً الهرم العنبر الذي عمله الأمين زينته ألف رطل بالمصريّ. النوع الثاني: حواصل المواشي المعبّر عنها عند كتّاب زماننا بالكراع: وهي حاصلان: الأول- الإصطبلات: وهي حواصل الخيول والبغال وما في معناها، قال ابن طوير: وكان لهم إصطبلان. قال: وكان للخليفة برسم الخاص في كل إصطبل ما يقرب من الألف رأس، النصف من ذلك برسم الخاص، والنصف برسم العواري في المواكب لأرباب الرتب والمستخدمين، وكان لكل ثلاثة أرؤس منها سائس واحد، لكل واحد منها شدّاد برسم تسييرها، وبكل من الإصطبلين رائض كأمير آخور. ومن غريب ما يحكى أن أحداً من خلفاء الفاطميين لم يركب حصاناً أدهم قط، ولا يرون إضافته إلى دوابهم بالإصطبلات. الثاني- المناخات. وهي حواصل الجمال، وكان لهم من الجمال الكثيرة بالمناخات وعددها الفائقة ما يقصر عنه الحد. النوع الثالث: حواصل الغلال وشون الأتبان: أما الغلال- فكانت لهم الأهراء في عدة أماكن: بالقاهرة، وبالفسطاط، والمقسم؛ ومنها تصرف الإطلاقات لأرباب الرواتب والخدم والصدقات وأرباب الجوامع والمساجد والجرايات والطواحين السلطانية، وجرايات رجال الأسطول وغير ذلك، وربما طال زمن الغلال فيها حتى تقطع بالمساحي. وأما شون الأتبان- فكان بطريق الفسطاط شونتان عظيمتان مملوءتان بالتبن معبأتان تعبئة المراكب كالجبلين الشاهقين، وينفق منها للإصطبلات والمواشي الديوانية وعوامل بساتين الملك، وكانت ضريبة كل شليف عندهم ثلثمائة وستين رطلاً. النوع الرابع: حواصل البضاعة: قال ابن الطوير: وكان فيها ما لا يحصره إلا القلم من الأخشاب والحديد والطواحين النجدية والغشيمة، وآلات الأساطيل من القنب والكتان، والمنجنيقات والصنّاع الكثيرة من الفرنج وغيرهم من أهل كل صنعة، وكانت الصناعة أولاً بالجزيرة المعروفة الآن بالروضة، ولذلك كانت تعرف بينهم بجزيرة الصناعة قاله القضاعي. النوع الخامس: ما في معنى الحواصل لوقوع الصرف والتفرقة منه: وهو الطواحين، والمطبخ، ودار الفطرة. فأما الطواحين- فإنها كانت معلقة، مداراتها أسفل وطواحينها فوق كما في السواقي حتى لايقارب الدقيق زبل الدواب الدائرة لاختصاصه بالخليفة. وأما المطبخ- فقد تقدم في الكلام على خطط القاهرة، وكان يدخل بالطعام منه إلى القصر من باب الزهومة مكان قاعة الحنابلة من المدرسة الصالحية الآن على ما تقدم في خطط القاهرة. قال ابن الطوير: ولم يكن لهم أسمطة عامة في سوى العيدبن وشهر رمضان. الجملة الثالثة في ذكر جيوش الدولة الفاطمية: وبيان مراتب أرباب السيوفوهم على ثلاثة أصناف: الصنف الأول الأمراء وهم على ثلاثة مراتب: المرتبة الأولى مرتبة الأمراء المطوقين وهم الذين يخلع عليهم بأطواق الذهب في أعناقهم، وكأنهم بمثابة الأمراء مقدمي الألوف في زماننا. المرتبة الثانية- مرتبة أرباب القضيب، وهم الذين يركبون في المواكب بالقضب الفضة التي يخرجها لهم الخليفة من خزانة التجمل تكون بأيديهم، وهم بمثابة الطبلخاناه في زماننا. المرتبة الثالثة- أدوان الأمراء ممن لم يؤهل لحمل القضب. وهم بمثابة أمراء العشرات والخمسات في زماننا. الصنف الثاني خواص الخليفة: وهم على ثلاثة أنواع: النوع الأول: الأستاذون: وهم المعروفون الآن بالخدام وبالطواشي، وكان لهم في دولتهم المكانة الجليلة، ومنم كان أرباب الوظائف الخاصة بالخليفة، وأجلهم المحنكون، وهم الذين يدورون عمائمهم على أحناكهم كما تفعل العرب والمغاربة الآن، وهم أقربهم إليه وأخصهم به، وكانت عدتهم تزيد على ألف. قال ابن الطوير: وكان من طريقتهم أنه متى ترشح أستاذ منهم للحنك وحنك، حمل إليه كل أستاذ من المحنكين بدلةً كاملة من ثيابه وسيفاً وفرساً فيصبح لاحقاً بهم، وفي يده مثل ما في أيديهم. النوع الثاني: صبيان الخاص: وهم جماعة من أخصاء الخليفة نحو خمسمائة نفر منهم أمراء وغيرهم، ومقامهم مقام المعروفين بالخاصكية في زماننا. النوع الثالث:صبيان الحجر: وهم جماعة من الشباب يناهزون خمسة آلاف نفر مقيمون في حجر منفردة لكل حجرة منها اسم يخصها، يضاهون مماليك الطباق السلطانية الآن المعبر عنهم بالكتانية إلا أن عدتهم كاملة وعللهم مزاحة، ومتى طلبوا لمهم لم يجدو عائقاً، وللصبيان منهم حجرة منفردة يتسلمها بعض الأستاذين؛ وكانت حجرتهم بمعزل عن القصر داخل باب القصر مكان الخانقاه الركنية بيبرس الآن. الصنف الثالث طوائف الأجناد: وكان عدة كثيرة، تنسب كل طائفة منهم إلى من بقي من بقايا خليفة من الخلفاء الماضين منهم، كالحافظية والآمرية من بقايا الحافظ والآمر، أو إلى من بقي من بقايا وزير من الوزراء الماضين كالجيوشية والأفضلية من بقايا أمير الجيوش بدر الجمالي وولده الأفضل، أو إلى من هي منتسبةٌ إليه في الوقت الحاضر كالوزيرية أو غير ذلك من القبائل والأجناس كالأتراك والأكراد والغز والديلم والمصامدة، أو من المستصنعين كالروم والفرنج والصقالبة، أو من السوادن من عبيد الشراء، أو العتقاء وغيرهم من الطوائف، ولكل طائفة منهم قواد ومقدمون يحكمون عليهم. الجملة الرابعة في ذكر أرباب الوظائف بالدولة الفاطمية: وهم على قسمين: القسم الأول ما يحضره الخليفة: وهم أربعة أصناف: الصنف الأول: أرباب الوظائف من أرباب السيوف: وهم نوعان: النوع الأول: وظائف عامة الجند: وهي تسع وظائف: الوظيفة الأول- الوزارة وهي أرفع وظائفهم وأعلاها رتبةً، واعلم أن الوزارة في الدولة الفاطمية كانت تارة تكون في أرباب السيوف، وتارة في أرباب الأقلام، وفي كلا الجانبين تارة تعلو فتكون وزارة تفويضٍ تضاهي السلطنة الآن أو قريباً منها، ويعبر عنها حينئذ بالوزارة، وتارة تنحط فتكون دون ذلك، ويعبر عنها حينئذ بالوساطة. قال في نهاية الأرب: وأول من خوطب منهم بالوزارة يعقوب بن كلس وزير العزيز، وأول وزارتهم من عظماء أرباب السيوف بدر الجمالي وزير المستنصر، وآخرهم صلاح الدين بن أيوب، ومنها استقل بالسلطنة على ما تقدم. الوظيفة الثانية- وظيفة صاحب الباب وهي ثاني رتبة الوزارة. قال ابن الطوير: وكان يقال لها الوزارة الصغرى، وصاحبها في المعنى يقرب من النائب الكافل في زماننا، وهو الذي ينظر في المظالم إذ لم يكن وزيرٌ صاحب سيف، فإن كان وزيرٌ صاحب سيف، كان هو الذي يجلس للمظالم بنفسه، وصاحب الباب من جملة من يقف في خدمته. الوظيفة الثالثة- الاسفهلارية. قال ابن الطوير: وصاحبها زمام كل زمام، وإليه أمر الأجناد والتحدث فيهم، وفي خدمته وخدمة صاحب الباب تقف الحجاب على اختلاف طبقاتهم. الوظيفة الرابعة- حمل المظلة في المواسم العظام: كركوب رأس العام ونحوه. وهي من الوظائف العظام، وصاحبها يسمى حامل المظلة، وهو أمير جليل، وله عندهم التقدم والرفعة، لحمل ما يعلو رأس الخليفة. الوظيفة الخامسة- حمل سيف الخليفة في المواكب التي تحمل فيها المظلة، ويعبر عن صاحبها بحامل السيف. الوظيفة السادسة- حمل رمح الخليفة في المواكب التي تحمل فيها المظلة. وهو رمح صغير يحمل مع الخليفة في المواكب، وصاحبها يعبر عنه بحامل الرمح. الوظيفة السابعة- حمل السلاح حول الخليفة في المواكب. وأصحاب هذه الوظيفة يعبر عنهم لزيهم بالركابية وبصبيان الركاب الخاص أيضاً، وهم الذين يعبر عنهم في زماننا بالسلاح دارية والطبردارية، وكانت عدتهم تزيد على ألفي رجل، ولهم اثنا عشر مقدماً، وهم أصحاب ركاب الخليفة، ولهم نقباء موكلون بمعرفتهم، والأكابر من هؤلاء الركابية تندب في الأشغال السلطانية، وإذا دخلوا عملاً كان لهم فيه الصيت المرتفع. الوظيفة الثامنة- ولاية القاهرة. وكان لصاحبها عندهم الرتبة الجليلة والحرمة الوافرة، وله مكان في الموكب يسير فيه. الوظيفة التاسعة- ولاية مصر. وهي دون ولاية القاهرة في الرتبة كما هي الآن، إلا أن مصر إذ ذاك عامرةً آهلةً، فكان مقدارها أرفع مما هي عليه في زماننا. النوع الثاني: وظائف خواص الخليفة من الأستادين: وهي عدة وظائف: وهي على ضربين: الضرب الأول ما يختص بالأستاذين المحنكين، وهي تسع وظائف: الأولى- شد التاج. وموضوعها أن صاحبها يتولى شد تاج الخيلفة الذي يلبسه في المواكب العظيمة بمثابة اللفاف في زماننا، وله ميزةٌ على غيره بلمسه التاج الذي يعلو رأس الخيفة، وكان لشده عندهم ترتيب خاص لا يعرفه كل أحدٍ، يأتي به في هيئة مستطيلة، ويكون شده بمنديل من لون لبس الخليفة، ويعبر عن هذه الشدة بشدة الوقار كما تقدم. الثانية- وظيفة صاحب المجلس. وهو الذي يتولى أمر المجلس الذي يجلس فيه الخليفة الجلوس العام في الموكب، ويخرج إلى الوزير والأمراء بعد جلوس الخليفة على سرير الملك يعلمهم بذلك، ينعت بأمين الملك وهو بمثابة أمير خازندار في زماننا. الثالثة- وظيفة صاحب الرسالة. وهو الذي يخرج برسالة الخيلفة إلى الوزير وغيره. الرابعة- وظيفة زمام القصور. وهو بمثابة زمام الدور في زماننا. الخامسة- وظيفة صاحب بيت المال. وهو بمثابة الخازندار في زماننا. السادسة- وظيفة صاحب الدفتر المعروف بدفتر المجلس. وهو المتحدث على الدواوين الجامعة لأمور الخلافة. السابعة- وظيفة حامل الدواة. وهي دواة الخيلفة المتقدم ذكرها، وصاحب هذه الوظيفة يحمل الدواة المذكورة قدامه على السرج ويسير بها في المواكب. الثامنة- وظيفة زم الأقارب. وصاحبها يحكم على طائفة الأشراف الذين هم أقارب الخليفة وكلمته نافذة فيهم. التاسعة- زم الرجال. وهو الذي يتولى أمر طعام الخليفة كأستادار الصحبة. الضرب الثاني ما يكون من غير المحنكين، ومن مشهوره وظيفتان: الأولى- نقابة الطالبيين. وهي بمثابة نقابة الأِشراف الآن، ولا يكون إلا من شيوخ هذه الطائفة وأجلهم قدراً؛ وله النظر في أمورهم، ومنع من يدخل فيهم من الأدعياء؛ وإذ ارتاب بأحد أخذه بإثبات نسبه. وعليه أن يعود مرضاهم، ويمشي في جنائزهم، ويسعى في حوائجهم، ويأخذ على يد المتعدي منهم، ويمنعه من الاعتداء، ولا يقطع أمراً من الأمور المتعلقة بهم إلا بموافقة مشايخهم ونحو ذلك. الوظيفة الثانية- زم الرجال. وصاحبها يتحدث على وظائف الرجال والأجناد كزم الصبيان الحجر، وزم الطائفة الآمرية والطائفة الحافظية، وزم السودان وغير ذلك، وهو بمثابة مقدم المماليك في زماننا. الصنف الثاني من أرباب الوظائف بحضرة الخليفة أرباب الأقلام: وهم على ثلاثة أنواع: النوع الأول: أرباب الوظائف الدينية: والمشهور منهم ستة: الأول- قاضي القضاة. وهو عندهم من أجل أرباب الوظائف وأعلاهم شأناً وأرفعهم قدراً. قال ابن الطوير: ولا يتقدم عليه أحد أو يحتمي عليه، وله النظر في الأحكام الشرعية ودور الضرب وضبط عيارها، وربما جمع قضاء الديار المصرية وأجناد الشام وبلاد المغرب لقاض واحد وكتب له به عهدٌ واحد كما سيأتي في الكلام على الولايات إن شاء الله تعالى. ثم إن كان الوزير صاحب سيفٍ، كان تقليده من قبله نيابة عنه، وإن لم يكن، كان تقليده من الخيلفة. ويقدم له من إصطبلات الخليفة بغلةٌ شهباء يركبها دائماً، وهو مختص بهذا اللون من البغال دون أرباب الدولة، ويخرج له من خزانة السروج مركب ثقيل وسرج برادفتين من الفضة، وفي المواسم الأطواق، وتخلع عليه الخلع المذهبة؛ وكان من مصطلحهم أنه لا يعدل شاهداً إلا بأمر الخيفة، ولا يحضر إملاكاً ولا جنازة إلا بإذن، وإذا كان ثم زيرٌ لا يخاطب بقاضي القضاة لأن ذلك من نعوت الوزير، ويجلس يوم الاثنين والخميس بالقصر أول النهار للسلام على الخليفة، ويوم السبت والثلاثاء يجلس بزيادة الجامع العتيق بمصر، وله طرحة ومسند للجولس وكرسي توضع عليه دواته. إذا جلس بالمجلس، جلس الشهود حواليه يمنةً ويسرةً على مراتبهم في تقدم تعديلهم. قال ابن الطير: حتى يجلس الشاب المتقدم التعديل أعلى من الشيخ المتأخر التعديل، وبين يديه أربعة موقعون اثنان مقابل اثنين، وببابه خمس حجاب: اثنان بين يديه واثنان على باب المقصورة وواحد ينفذ الخصوم. ولا يقوم لأحد وهو في مجلس الحكم البتة. الثاني- داعي الدعاة. وكان عندهم يلي قاضي القضاة في الرتبة ويتزيا بزيه في اللباس وغيره. وموضوعه عندهم أنه يقرأ عليه مذاهب أهل البيت بدار تعرف بدار العلم، ويأخذ العهد على من ينتقل إلى مذهبهم. الثالث- المحتسب. وكان عندهم من وجوه العدول وأعيانهم، وكان من شأنه إذا خلع عليه قريء سجله بمصر والقاهرة على المنبر؛ ويده مطلقةٌ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قادعة الحسبة؛ ولا يحال بينه وبين مصلحة أرادها؛ ويتقدم إلى الولاة بالشد منه، ويقيم النواب عنه بالقاهرة ومصر وجميع الأعمال كنواب الحكم، ويجلس بجامعي القاهرة ومصر يوماً بيوم، وباقي أمره على ما الحال عليه الآن. قلت: ورأيت في بعض سجلاتهم إضافة الحسبة بمصر والقاهرة إلى صاحبي الشرطة بهما أحياناً. اللرابع- وكالة بيت المال. وكانت هذه الوكالة لا تسند إلا لذوي الهيبة من شيوخ العدول، ويفوض إليه عن الخليفة بيع ما يرى بيعه من كل صنف يملك ويحوز التصرف فيه شرعاً، وعتق المماليك، وتزويج الإماء، وتضمين ما يقتضي الضمان، وابتياع ما يرى ابتياعه، وإنشاء ما يرى إنشاءه من البناء والمراكب وغير ذلك مما يحتاج إليه في التصرف عن الخليفة. الخامس- النائب. والمراد نائب صاحب الباب المتقدم ذكره المعبر عنه في زماننا بالمهمندار. قال ابن الطوير: ويعبر عن هذه النيابة بالنيابة الشريفة. وقال وهي رتبة جليلة، يتولاها أعيان العدول وأرباب الأقلام؛ وصاحبها ينوب عن صاحب الباب في تلقي الرسل الواردين على الخليفة على مسافة وقفة نواب الباب في خدمته، وينزل كلا منهم في المكان اللائق به، ويرتب لهم ما يحتاجون إليه، ولا يمكن أحداً من الاجتماع بهم، ويتولى أفتقادهم، ويذكر صاحب الباب بهم، ويسعى في نجاز أمرهم، وهو الذي يسلم بهم على الخليفة أو الوزير ويتقدمهم ويستأذن عليهم، ويدخل الرسول وصاحب الباب قابضٌ على يده اليمنى، والنائب قابض على يده اليسرى فيحفظ ما يقولون وما يقال لهم، ويجتهد في انفصالهم على أحسن الوجوه، وإذا غاب أقام عنه نائباً إلى أن يعود. ومن شريطته أن لا يتنأول من أحد من الرسل تقدمة ولا طرفة إلا بإذن. قال ابن الطوير: وهو المسمى الآن بالمهمندار، وسيأتي في الكلام على ترتيب المملكة المستقر أن المهمندار الآن من أصحاب السيوف، وكأن ذلك لموافقة الدولة في اللسان والهيئة. السادس- القراء. وكان لهم قراء يقرأون بحضرة الخليفة في مجالسه وركوبه في المواكب وغير ذلك، وكان يقال لهم قراء الحضرة يزيدون في العدة على عشر نفرٍ، وكانوا يأتون في قراءاتهم في المجالس ومواكب الركوب بآيات مناسبة للحال بأدنى ملابسة، ثم ألفوا ذلك وصار سهل الاستحضار عليهم، وكان ذلك يقع منهم موقع الاستحسان عند الخليفة والحاضرين، حتى أنه يحكى أن بعض الخلفاء غضب على أمير فأمر باعتقاله، فقرأ قارئ الحضرة: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} فاستحسن ذلك وأطلقه إلا أنهم كانوا ربما آتوا إذا روعي قصدهم فيها، أخرجت القرآن عن معناه: كما يحكى أنه لما استوزر المستنصر بدر الجمالي قرأ قارئهم: {ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلةٌ} ولما استوزر الحافظ رضوان قرأ قارئهم: {يبشرهم ربهم برحمةٍ منه ورضوان} إلى غير ذلك من الوقائع. النوع الثاني من أرباب الأقلام أصحاب الوظائف الديوانية: وهي أربعة أضرب: الضرب الأول: الوزارة إذا كان الوزير صاحب قلم: اعلم أن أكثر وزرائهم في ابتداء دولتهم إلى أثناء خلافة المستنصر كانوا من أرباب الأقلام: تارةً وزارة تامة وتارة وساطة، وهي رتبة دون الوزارة، وممن اشتهر من دون وزرائهم أرباب الأقلام فيما ذكره ابن الطوير: يعقوب بن كلس وزير العزيز، والحسن بن عبد الله اليازوري وزير المستنصر، وأبو سعيد التستري، والجرجراني، وابن أبي كدينة، وأبو الطاهر أحمد بن بابشاذ صاحب المقدمة في النحو، ووزير الوزراء علي بن فلاح، والمغربي وزير المستنصر، وهو آخر من وزر لهم من أصحاب الأقلام، وعليه قدم أمير الجيوش بدرٌ الجمالي فوزر للمستنصر على ما تقدم ذكره؛ وربما تخلل تلك المدة الأولى في الوساطة أرباب السيوف، كبرجوان الخادم، وقائد القواد الحسين بن جوهر، وثقة ثقات السيف والقلم علي بن صالح كلهم في أيام الحاكم. وربما ولي الوساطة بعض النصارى، كعيسى بن نسطورس في أيام العزيز، ومنصور بن عبدون الملقب بالكافي، وزرعة بن نسطورس الملقب بالشافي كلاهما في أيام الحاكم. وربما كان الأمر شورى في أهل المروادني؛ وكان من زي وزرائهم أصحاب الأقلام أنهم يلبسون المناديل الطبقيات بالأحناك تحت حلوقهم كالعدول، وينفردون بلبس الدراريع مشقوقةً من النحر إلى أسفل الصدر بأزرار وعرى؛ وهذه علامة الوزارة؛ ومنهم من تكون أزراره من ذهب مشبك، ومنهم من تكون أزراره من لؤلؤ، وعادته أن تحمل له الدواة المحلاة بالذهب من خزانة الخليفة ويقف بين يديه الحجاب، وأمره نافذ في أرباب السيوف من الأجناد وفي أرباب الأقلام. الضرب الثاني ديوان الإنشاء وكان يتعلق به عندهم ثلاث وظائف: الأولى- صحابة ديوان الإنشاء والمكاتبات وكان لا يتولاه إلا أجل كتاب البلاغة، ويخاطب بالأجل؛ وكان يقال عندهم كاتب الدست الشريف، وإليه تسلم المكاتبات الواردة مختومةً فيعرضها على الخليفة من يده، وهو الذي يأمر بتنزيلها والإجابة عليها، ويستشيره الخليفة في أكثر أموره؛ ولا يحجب عنه متى قصد المثول بين يديه، وربما بات عنده الليالي، ولا سيبل إلى أن يدخل إلى ديوانه ولا يجتمع بكتابه أحدٌ إلا خواص الخليفة. وله حاجب من أمراء الشيوخ، وله مرتبة عظيمة للجلوس عليها بالمخاد والمسند، ودواته من أخص الدوي وأحسنها إلا أنه ليس لها كرسي توضع عليه كدواة قاضي القضاة، ويحملها له أستاذ من الأستاذين المختصين إذا أتى إلى حضرته. الثانية- التوقيع بالقلم الدقيق في المظالم وهي رتبة جليلة تلي رتبة صاحب ديوان الإنشاء والمكاتبات، ويكون صاحبها جليساً للخليفة في أكثر أيام الاسبوع في خلوته، يذاكره ما يحتاج إليع من كتاب الله تعالى أو أخبار الأنبياء والخلفاء الماضين، ويقرأ عليه ملح السير، ويكرر عليه ذكر مكارم الأخلاق، ويقوي يده في تجويد الخط وغير ذلك. وصحبته للجلوس دواة محلاة، فإذا فرغ في المجالسة ألقى في الدواة كاغدة فيها عشرة دنانير، وقرطاسٌ فيه ثلاثة مثاقيل ند مثلث خاص ليتبخر به عند دخوله على الخليفة ثاني دفعة. وإذا جلس الوزير صاحب السيف للمظالم، كان إلى جانبه يوقع بما يأمر به في المظالم. وله موضعٌ من حقوق ديوان المكاتبات لا يدخل إليه أحد إلا بإذن، وفراش لتقديم القصص؛ ويرفع إليه هناك قصص المظالم ليوقع عليها بما يقتضيه الحال كما يفعل كاتب السر الآن. الثالثة- التوقيع بالقلم الجليل وكان يسمى عندهم الخدمة الصغرى لجلالتها، ولصاحبها الطراحة والمسند في مجلسه بغير حاجب. وموضوعها الكتابة بتنفيذ ما يوقع به صاحب القلم الدقيق، وبسطه. وصاحب القلم الدقيق في المعنى ككاتب السر أو كاتب الدست في زماننا، وصاحب القلم الجليل ككاتب الدرج. فإذا رفعت قصص المظالم، حملت إلى صاحب القلم الدقيق فيوقع عليها بما يقتضيه الحال بأمر الخليفة أو أمر الوزير أو من نفسه، ثم تحمل إلى الموقع بالقلم الجليل لبسط ما أشار إليه صاحب القلم الدقيق، ثم تحمل في خريطة إلى الخليفة فيوقع عليها، ثم تخرج في خريطتها إلى الحاجب فيقف على باب القصر، ويسلم كل توقيع لصاحبه. أما توقيع الخليفة بيده على القصص، فإنه إن كان ثم وزيرٌ صاحب سيف وقع الخليفة على القصة بخطه: وزيرنا السيجد الأجل ونعته بالمعروف به أمتعنا الله تعالى ببقائه يتقدم بكذا وكذا إن شاء الله تعالى ويحمل إلى الوزير فإن كان يحسن الكتابة، كتب تحت خط الخليفة: أمتثل أمر مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وإن كان لا يحسن الكتابة، كتب أمتثل فقط؛ وإن لم يكن وزيرٌ صاحب سيف: فإن أراد الخليفة نجاز الأمر لوقته، وقع في الجانب الأيمن من القصة يوقع بذلك فتخرج إلى صاحب ديوان المجلس فيوقع عليها بالقلم الجليل ويخلي موضع العلامة، ثم تعاد إلى الخليفة فيكتب في موضع العلامة يعتمد وتثبت في الدواوين بعد ذلك. وإن كان يوقع في مساحة أوز تسويغ أو تحبيس، كتبت لرافعها بذلك وقد أمضينا ذلك وإن أراد علم حقيقة القصة، وقع على جانب هذه القصة ليخرج الحال في ذلك وتحمل إلى الكاتب فيكتب الجال وتعاد إلى الخليفة فيفعل فيها ما أراد من توقيع ومنع، والله أعلم. الضرب الثالث: ديوان الجيش والرواتب: وهو على ثلاثة أقسام: الأول- ديوان الجيش. ولا يكون صاحبه إلا مسلماً، وله الرتبة الجليلة والمكانة الرفيعة؛ وبين يديه حاجبٌ، وإلييع عرض الأجناد وخيولهم، وذكر حلاهم وشيات خيولهم. وكان من شرط هذا الديوان عندهم ألا يثبت لأحد من الأجناد إلا الفرس الجيد من ذكر الخيل وإناثها دون البغال والبراذين، وليس له تغيير أحد من الأجناد ولا شيء من إقطاعهم إلا بمرسوم. وبين يدي صاحب هذا الديوان نقباء الأمراء، يعرفونه أحوال الأجناد من الحياة والموت والغيبة والحضور وغير ذلك، على ما الحال عليه الآن. وكان قد فسح للأجناد في المقايضة بالإقطاعات لما لهم في ذلك من المصالح كما هو اليوم، بتوقعات من صاحب ديوان المجلس من غير علامة؛ ولم يكن لأمير من أمرائهم بلد كاملة، وإن علا قدره إلا في النادر. ومن هذا الديوان كان يعمل أوراق أرباب الجرايات، وله خازنان برسم رفع الشواهد. الثاني- ديوان الرواتب. وكان يشتمل على اسم كل مرتزق في الدولة وجار وجراية؛ وفيه كاتب أصيل بطراحة ونحو عشرة معينين، والتعريفات واردة عليه من كل عملٍ باستمرار من هو مستمرٌ ومباشرة من استجد وموت من مات، وفيه عدة عروض يأتي ذكرها في الكلام على إجراء الأرزاق والعطاء. الثالث- ديوان الإقطاع. وكان مختصاً عندهم بما هو مقطع للأجناد، وليس للمباشرين فيه تنزيل حلية جندي ولا شية دابته، وكان يقتل لإقطاعات العربان في أطراف البلاد وغيرها الاعتداد، وهي دون عبرة الأجناد. الضرب الرابع: نظر الدواوين: وصاحب هذه الوظيفة هو رأس الكل، وله الولاية والعزل، وإليه عرض الأرزاق في أوقات معروفة على الخليفة والوزير، وله الجلوس بالمرتبة والمسند، وبين يديه حاجب من أمراء الدولة؛ وتخرج له الدواة من خزانة الخليفة بغير كرسي، وإليه طلب الأموال واستخراجها والمحاسبة عليها، ولا يعترض فيما يقصده من أحد من الدولة. قال ابن الطوير: ولم ير في هذا الوظيفة نصراني إلا الأحرم. الثانية- ديوان التحقيق. وموضوعه المقابلة على الدواوين، وكان لا يتولاه إلا كاتب خبير، وله الخلع ومرتبة يجلس عليها وحاجب بين يديه، ويفتقر إليه في كثير من الأوقات، ويلحق برأس الدواوين المتقدم ذكره. الثالثة- ديوان المجلس. قال ابن الطوير: وهو أصل الدواوين قديماً، وفيه معالم الدولة بأجمعها، وفيه عدة كتب، وعنده معين أو معينان، وصاحب هذا الديوان هو المتحدث في الإقطاعات، ويخلع عليه وينشأ له سجلٌ بذلك لاحق بديوان النظر، وله دواة تخرج له من خزانة الخليفة وحاجب يقف بين يديه، وكان يتولاه عندهم أحد الكتاب الدواة ممن يكون مترشحاً لأن يكون رأس الدواوين، ويسمى استيماره دفتر المجلس. وهو متضمن للعطاء والظاهر من الرسوم التي تقرر في غرة السنة والضحايا، وما ينفق من دار الفطرة في عيد الفطر، وفي فتح الخليج والأسمطة المستعملة في رمضان وغيره، وسائر المآكل والمشارب والتشريفات، وما يطلق من الأهراء من الغلات، وما لأولاد الخليفة وأقاربه وأرباب الرواتب على اختلاف الطبقات من المرتب، وما يرد من الملوك من الهدايا والتحف، وما يبعث به إيه من الملاطفات، ومقادير صلات الرسل الواردين بانمكاتبات، ما يخرج من الاكفان لمن يموت من الحريم، وضبط ما ينفق في الدولة من المهمات ليعلم ما بين السنة والأخرى من التفاوت وغير ذلك من الأمور المهمة. وهذا الديوان في زماننا قد تفرق إلى عدة دواوين كالوزراة ونظر الخاص والجيش وغيرها. الربعة- ديوان خزائن الكسوة. وكان لها عندهم رتبة عظيمة في المباشرات. وقد تقدم ذكر حواصلها في جملة الخزائن فيما سبق. الخامسة- الطراز. وكان يتولاه الأعيان من المستخدمين، من أرباب الأقلام، وله اختصاص بالخليفة دون كافة المستخدمين، ومقامه بدمياط وتنيس وغيرهما من مواضع الاستعمالات، ومن عنده تحمل المستعملات إلى خزانة الكسوة المقدمة الذكر. السادسة- الخدمة في ديوان الأحباس قال ابن الطوير: وهي أوكد الدواوين مباشرة لا يخدم فيها إلا الأعيان كتاب المسلمين من الشهود المعدلين، وفيها عدة مدراء بسبب أرباب الرواتب، وكان فيه كاتبان ومعينان لنظم الاستيمارات، ويورد في استيماره كل ما الرقاع والرواتب، وما يجبى له من جهات كل من الوجهين القبلي والبحري. السابعة- الخدمة بديوان الرواتب. وفيه مرتبات الوزير فمن دونه إلى الضوي قال ابن الطوير: بلغ في بعض السنين ما يزيد على مائة ألف دينار ونحواً من مائتي ألف، ومن القمح والشعير عشرة آلاف إردب، وكان استيمار الرواتب يعرض في كل سنة على الخليفة فيزيد من يزيد، وينقص من ينقص، وإنه عرض سنةً على المستنصر بالله فلم يعترض أحداً، المرتبين بنقص، ووقع على ظاهر الاستيمار بخطه الفقر مر المذاق، والحاجة تذل الأعناق، وحراسة النعم بإدرار الأرزاق، فليجروا على رسومهم في الإطلاق، وما عندهم ينفد وما عند الله باقٍ وأمر ولي الدولة ابن خيران كاتب الإنشاء بإمضاء ذلك. الثامنة- الخدمة في ديوان الصعيد من الصعيد الأعلى والصعيد الأدنى. وكان فيه عدة كتاب فرو، والاستيفاء مقسوم بينهم، وعليهم عمل التذاكر بطلب ما تأخر من الحساب. وصاحب هذا الديوان يترجمها بخطه، ويحملها إلى صاحب الديوان الكبير فيوقع عليها بالاسترفاع، ويندب لها من الحجاب أو غيرهم من يراه، وله مياومة يأخذها من المستخدمين مدة بقائه عندهم ويحضرها نسخاً للدواوين الأصول. التاسعة- الخدمة في ديوان أسفل الأرض. وهو الوجه البحري خلا الثغور، وحكمه فيما تقدم من الكتاب وما يلزم كلا منهم كحكم ديوان الصعيد المتقدم الذكر من غير فرق. العاشرة- الخدمة في ديوان الثغور. وهي الإسكندرية ودمياط ونستروه والبرلس والفرما، وحكمه حكم ما تقدم من ديوان الصعيد وأسفل الأرض. الحادية عشرة- الخدمة في الجوالي والمواريث الحشرية. قال ابن الطوير: كان لا يتولاه إلا عدل، وفيه جماعة من الكتاب على ما تقدم في غيره من الدواوين أيضاً. الثانية عشرة- الخدمة في ديواني الخراجي والهلالي وتجري فيه الرباع والمكوس وعليه حوالات أكثر المرتزقين. الثالثة عشرة- الخدمة في ديوان الكراع. وفيه معاملة الإصطبلات، وما فيها من الدواب الخاص وغيرها والبغال والجمال ودواب المرمة المرصدة للعمائر ورباع الديوان، وعدد ذلك وآلاته، وعلوفات ذلك مع ما ينضم إليه من علوفة الفيلة والزراريف والوحوش وراتب من يخدمها. وكان في هذا الديوان كاتباً أصل ومستوفي ومعينان. الرابعة عشرة- الخدمة في ديوان الجهاد. ويقال: له ديوان العمائر، وكان محله بالصناعة بمصر، وفيه إنشاء المراكب للأسطول وحمل الغلال السلطانية والأحطاب وغيرها، ومنه ينفق على رؤساء المراكب ورجالها، وإذا لم يف ارتفاقه بما يحتاج إليه استدعي له من بيت المال بما يكفيه. الصنف الثالث من أرباب الوظائف أصحاب الوظائف الصناعية: وأعظمها وظائف الأطباء، وكان للخليفة طبيب يعرف بطبيب الخاص يجلس على باب دار الخليفة كل يوم، ويجلس على الدكك التي بالقاعة المعروفة بقاعة الذهب بالقصر دونه أربعة أطباء أو ثلاثة فيخرج الأستاذون فيستدعون منهم من يجدونه للدخول على المرضى بالقصر لجهات الأقارب والخواص فيكتب لهم رقاعاً على خزانة الشراب فيأخذون ما فيها، وتبقى الرقاع عند مباشريها شاهداً لهم. ولكل منهم الجاري والراتب على قدره. الصنف الرابع: الشعراء: وكانوا جماعة كثيرة من أهل ديوان الإنشاء وغيره، وكان منهم أهل سنة لا يغلون في المديح؛ وشيعةٌ يغلون فيه. فمن أحسن مدحٍ فيهم لسني قول عمارة اليمنى رحمه الله: ومن الذي وقعت فيه المغالاة قول بعضهم: قلت: وههذ المغالاة من المغالاة الفاحشة التي لا يجوز الإقدام عليها لسني ولا متشيع، وإنما هي من اقتحام الشعراء البوائق. القسم الثاني من أرباب الوظائف بالدولة الفاطمية ما هو خارج عن حضرة الخلافة: وهو صنفان: الصنف الأول النواب والولاة: واعلم أن مملكتهم كانت قد انحصرت في ثلاث ممالك فيها نواب وولاتهم: المملكة الأولى الديار المصرية وهي التي كانت قد استقرت قاعدة ملكهم، ومحط رحالهم، وكان بها أربع ولايات: الأولى- ولاية قوص وكانت هي أعظم ولايات الديار المصرية، وواليها يحكم على جميع بلاد الصعيد، وربما ولي بالأشمونين ونحوها من يكون دونه. الثانية- ولاية الشرقية وكانت دون ولاية قوص في الرتبة، وكان متوليها يحكم على عمل بلبيس وعمل قليوب وعمل أشموم. الثالثة- ولاية الغربية وكانت دون ولاية الشرقية في المرتبة، وكان متوليها يحكم على عمل المحلة، وعمل منوف، وعمل أبيار. الرابعة- ولاية الإسكندرية وهي دون الغربية في الرتبة، وكان متوليها بحكم على أعمال البحيرة بأجمعها. قال ابن الطوير: وهؤلاء الأربعة كان يخلع عليهم من خزانة الكسوة بالبدنة، وهو النوع الذي يلبسه الخليفة في يوم فتح الخليج. قلت: لعل هذه الولايات أربع ولايات الولاة التي تدخل تحت حكمها الولايات الصغار، أو تكون هي التي استقر عبليه الحال في آخر دولتهم، وإلا فقد رأيت في تذكرة أبي الفضل الصوري، أحد كتاب الإنشاء في أيام القاضبي الفاضل سجلاتٍ كثيرةً لولاة الوجهين القبلي والبحري. الجملة الخامسة من ترتيب مملكتهم في هيئة الخليفة في مواكبه وقصوره: وهي على ثلاثة أضرب: الضرب الأول جلوسه في المواكب: وله ثلاثة جلوسات: الجلوس الأول جلوسه في المجلس العام أيام المواكب: واعلم أن جلوس الخليفة أولاً كان بالإيوان الكبير الذي كان بالقصر على سرير الملك الذي كان بصدره إلى آخر أيام المستعلي. فلما ولي ابنه الآمر الخلافة بعده، نقل الجلوس من الإيوان الكبير إلى القاعة المعروفة بقاعة الذهب بالقصر أيضاً، وصار يجلس من مجالسها على سرير الملك به، وجعل الإيوان الكبير خزانة للسلاح، ولم يتعرض لإزالة سرير الملك منه حتى جاءت الدولة الأيوبية، وهو باق، وكان جلوسه الخليفة في هذه الحالة لا يتعدى يومي الاثنين والخميس، وليس ذلك على الدوام بل على التقرير بحسب ما يقتضيه الحال. فإذا أراد الجلوس فإن كان في الشتاء علق المجلس الذي يجلس فيه بستور الديباج، وفرش بالبسط الحرير؛ وإن كان في الصيف، علق بالستور الدبقية وفرش بطبري طبرستان المذهب الفائق، وهيئت المرتبة المعدة لجلوسه على سرير الملك بصدر المجلس، وعشي السرير بالقرقوبي، ثم يستدعي الوزير من داره بصاحب الرسالة على حصان رهوان في أسرع حركة على خلاف الحركة المعتادة، فيركب الوزير في هيئته وجماعته بين يديه الأمراء، فإذا وصل إلى باب القصر ترجل الأمراء، وهو راكب إلى أول باب باب من الدهليز الطوال عند دهليز يعرف بدهليز العمود، ويمشي وبين يديه أكابر الأمراء إلى مقطع الوزارة بقاعة الذهب، فإذا تهيأ جلوس الخليفة، استدعى الوزير من مقطع الوزارة إلى باب المجلس الذي فيه الخليفة وهو مغلق، وعلى بابه سترٌ مغلق، فيقف زمام القصر عن يمين باب المجلس وزمام بيت المال عن يساره، والوزير واقف أمام باب المجلس وحواليه الأمراء المطوقون وأرباب الخدم الجليلة، وفي خلال القوم قراء الحضرة؛ ويضع صاحب المجلس الدواة مكانها من المرتبة أما الخليفة، ثم يخرج كم من أكمامه يعرف بفرد الكم ويشير إلى زمام القصر وزمام بيت المال الواقفين بباب المجلس، فيرفع كل منهما جانب الستر فيظهر الخليفة جالساً على سرير الملك مستقبل القول بوجهه، ويستفتح القراء بالقرآن، ويدخل الوزير المجلس ويسلم بعد دخوله، ثم يقبل يدي الخليفة ورجليه، ويتأخر مقدار ثلاثة أذرع ويقف ساعة زمانية، ثم تخرج له مخدة عن الجانب الأيمن من الخليفة ويؤمر بالجلوس إليها، ويقف الأمراء في أماكنهم المقررة لهم، فصاحب الباب واسفهسلار من جانبي الباب يميناً ويساراً، ويليهم من خارجه ملاصقاً للعتبة زمام الآمرية والحافظية، وباقي الأمراء على مراتبهم إلى آخر الرواق، وهو إفريزٌ عالٍ عن أرض القاعة، ثم أرباب القضب والعماريات يمنةً ويسرةً كذلك، ثم الأماثل والأعيان من الأجناد المترشحين للتقدمة، ويقف مستنداً بالقدر الذي يقابل باب المجلس نواب الباب والحجاب، فإذا انتظم الأمر على ذلك، فأول ماثل للخدمة بالسلام قاضي القضاة والشهود المعروفون بالاستخدام فيجيز صاحب الباب القاضي دون من معه فيسلم على الخليفة بأدب الخلافة، بأن يرفع يده اليمنى ويشير بالمسبحة، ويقول بصوت مسموع: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته يتخصص بهذا الكلام دون غيره من أهل السلام، ثم يسلم بالأشراف الأقارب زمامهم، وبالأشراف الطالبيين نقيبهم، فتمضي عليهم كذلك ساعتان زمانيتان أو ثلاثٌ، ثم يسلم عليه من خلع عليه بقوص أو الشرقية أو الغربية أو الإسكندرية، ويشرفون بتقبيل العتبة، وإذا دعت حاجة الوزير إلى مخاطبة الخليفة في أمر، قام من مكانه وقرب منه منحنياً على سيفه، ويخاطبه مرة أو مرتين أو ثلاثاً، ثم يأمر الحاضرون بالانصراف فينصرفون، ويكون آخرهم خروجاً الوزير بعد تقبيل يد الخليفة ورجله. فإذا خرج إلى الدهليز الذي ترجل فيه، ركب منه إلى داره، وفي خدمته من حضر في خدمته إلى القصر، ويدخل الخليفة إلى سكنه مع خواص الأستاذين، ثم يغلق باب المجلس ويرخى الستر إلى أن يحتاج إلى حضور موكب آخر فيكون الأمر كذلك. الجلوس الثاني جلوسه للقاضي والشهود في ليالي الوقود الأربع من كل سنة: وهي ليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه إذا مضى النصف من جمادى الآخرة حمل إلى القاضي من حواصل الخليفة ستون شمعة، زنة شمعة منها سدس قنطار بالمصري ليركب بها في أول ليلة من شهر رجب؛ فإذا كان أول ليلة منه جلس الخليفة في منظرة عالية كانت عند باب الزمرد من أبواب القصر المتقدم ذكره، وبين يديه شمع يوقد في العلو يتبين شخصه على إرتفاعه. ويركب القاضي من داره بعد صلاة المغرب وبين يديه الشمع المحمول إليه من خزانة الخليفة موقوداً، ومن كل جانب ثلاثون شمعة، وبين الصفين مؤذنو الجوامع، يعلنون بذكر الله تعالى، ويدعون للخليفة والوزير بترتيب مقرر محفوظ ويحجبه ثلاثة من نواب الباب، وعشرة من حجاب الخليفة، خارجاً عن حجاب الحكم المستقرين وهم خمسة في زي الأمراء؛ وفي ركابه القراء يقرأون القرآن، والشهود وراءه على ترتيب جلوسهم بمجلس الحكم الأقدم فالأقدم؛ وحول كل منهم ثلاث شمعات أو شمعتان أو شمعة واحدة إلى بين القصرين في جمع عظيم حتى يأتي باب الزمرد من أبواب القصر، فيجلسون في رحبة تحت المنظرة التي فيها الخليفة، ويحضر بين يديه بسمتٍ ووقار وتشوف لانتظار ظهور الخليفة، فيفتح الخليفة إحدى طاقات المنظرة فيظهر منها رأسه ووجهه على رأسه عدة من خواص الأستاذين من المحنكين وغيرهم، فيفتح بعض الأستاذين طاقةً أخرى فيخرج منها رأسه ويده اليمنى، ويشير بكمه قائلاً: أمير المؤمنين يرد عليكم السلام، فيسلم بقاضي القضاة أولاً بنعوته، وبصاحب الباب بعده كذلك، وبالجماعة الباقية جملة من غير تعيين أحد؛ ويستفتح قراء الحضرة بالقراءة وهم قيام في الصدر، ظهورهم إلى حائط المنظرة ووجوههم للحاضرين. ثم يتقدم خطيب الجامع الأنور وهو الذي بباب البحر فيخطب كما يخطب فوق المنبر، وينبه على فضيلة ذلك الشهر، وأن ذلك الركوب علامته ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة؛ ثم يتقدم خطيب الجامع الأزهر فيخطب كذلك؛ ثم يتقدم خطيب جامع الحاكم فيخطب كذلك، والقراء في خلال تلك الخطب يقرأون، فإذا انتهت خطابة الخطباء، أخرج الأستاذ الأول يده من تلك الطاقة فيرد على الجماعة السلام؛ ثم تغلق الطاقاتان وينفض الناس، ثم يركب القاضي والشهود إلى دار الوزير فيجلس لهم ليسلموا عليه، ويخطب الخطباء الثلاثة عنده بأخف من مقام الخليفة ويدعون له، ثم ينصرفون ويذهب القاضي والشهود صحبته إلى مصر، ووالي القاهرة في خدمته، ويمر بجامع ابن طولون فيصلي فيه ويخرج منه فيجد والي مصر في تلقيه فيمضي في خدمته، ويمر على المشاهد فيتبرك بها، ويمضي إلى الجامع العتيق ويدخل من باب الزيادة التي يحكم فيها فيصلي في الجامع ركعتين، ويوقد له التنور الفضة الذي بالجامع، وهو تنور عظيم حسن التكوين، فيه نجو ألف وخمسمائة براقة، وبسفله نحو مائة قنديل؛ ثم يخرج من الجامع فإن كان ساكناً بمصر استقر بها، وإن كان ساكناً بالقاهرة انتظره والي القاهرة في مكانه حتى يعود من مصر فيذهب في خدمته إلى داره. وكذلك يركب في ليلة الخامس عشر من رجب إلا أنه بعد صلاته في جامع مصر يتوجه إلى القرافة فيصلي في جامعها؛ ثم يركب في أول شعبان كذلك، ثم في نصفه كذلك. الجلوس الثالث جلوسه في مولد النبي صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من شهر ربيع الأول: وكان عادتهم فيه أن يعمل في دار الفطرة عشرون قنطاراً من السكر الفائق حلوى من طرائف الأصناف، وتعبى في ثلثمائة صينية نحاس. فإذا كان ليلة ذلك المولد، تفرق في أرباب الرسوم: كقاضي القضاة وداعي الدعاة، وقراء الحضرة، والخطباء، والمتصدرين بالجوامع بالقاهرة ومصر، وقومه المشاهد وغيرهم ممن له اسم ثابت بالديوان، ويجلس الخليفة في منظرة قريبة من الأرض مقابل الدار القطبية المتقدمة الذكر وهي بالبيمارستان المنصوري الآن ثم يركب القاضي بعد العصر ومعه الشهود إلى الجامع الأزهر ومعهم أرباب تفرقة الصواني المتقدمة الذكر، فيجلسون في الجامع مقدار قراءة الختمة الكريمة، وتسد الطريق تحت القصر من جهة السيوفيين وسويقة أمير الجيوش، ويكنس ما بين ذلك ويرش بالماء رشاً، ويرش تحت المنظرة بالرمل الأصفر. ويقف صاحب الباب ووالي القاهرة على رأس الطرق لمنع المارة، ثم يستدعي القاضي ومن معه فيحضرون ويترجلون على القرب من المنظرة ويجتمعون تحتها وهم متشوفون لانتظار ظهور الخليفة، فيفتح إحدى طاقات المنظرة فيظهر منها وجهه، ثم يخرج أحد الاستاذين المحنكين يده ويشير بكمه بأن الخليفة يرد عليكم السلام، ويقرأ القراء ويخطب الخطباء كما تقدم في ليالي الوقود فإذا انتهت خطابة الخطباء أخرج الأستاذ يده مشيراً برد السلام كما تقدم، ثم تغلق الطاقتان وينصرف الناس إلى بيوتهم، وكذلك شأنهم في مولد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الخاص في أوقات معلومة عندهم من السنة. الضرب الثاني ركوبه في المواكب: وهو على نوعين: النوع الأوّل: ركوبه في المواكب العظام: وهي ستة مواكب: الموكب الأوّل: ركوب أوّل العام: وكان من شأنهم فيه أنه إذا كان العشر الآخر من ذي الحجة من السنة، وقع الاهتمام بإخراج ما يحتاج إليه في المواكب من حواصل الخليفة، فيخرج من خزائن السلاح ما يحمله الرّكابية وغيرهم حول الخليفة كالصّماصم، والدّبابيس، واللّتوت، وعمد الحديد، والسيوف، والدّرق، والرماح، والألوية والأعلام. ومن خزانة التجمل برسم الوزير والأمراء وأرباب الخدم الألوية والقضب، والعماريات، وغير ذلك مما تقدّم ذكره. ومن الإصطبلات مائة فرس مسوّمة برسم ركوب الخليفة وما بجنبه. ويخرج من خزانة السروج مائة سرج بالذهب والفضة مرصّع بعضها بالجواهر بمراكب من ذهب، وفي أعناق الخيل أطواق الذهب وقلائد العنبر، وفي أرجل أكثرها خلاخل الذهب والفضة مسطحة، قيمة كل فرس وما عليها من العدّة ألف دينار، يدفع للوزير منها عشرة بعدّتها برسم ركوبه وركوب أخصّائه، وتسلّم إلى المناخات أغشية العماريات لتحمل على الجمال، إلى غير ذلك من الآلات المستعملة في المواكب مما تقدّم ذكره في الكلام على الخزائن، ويبعث إلى أرباب الخدم من الإصطبلات بخيول عادية ليركبوها في الموكب. فإذا كان يوم التاسع والعشرين من ذي الحجة، استدعى الخليفة الوزير من داره على الرسم المعتاد في الإسراع، فإذا عاد صاحب الرسالة من استدعاء الوزير، خرج الخليفة من مكانه راكباً في القصر، فينزل في السدلّى، بدهليز باب الملك الذي فيه الشباك، وعليه ستر من ظاهره، فيقف من جانبه الأيمن زمام القصر، ومن جانبه الأيسر صاحب بيت المال؛ ويركب الوزير من داره وبين يديه الأمراء، فإذا وصل إلى باب القصر ترجّل الأمراء وهو راكب، ويدخل من باب العيد، ولا يزال راكباً إلى أوّل باب من الدهاليز الطّوال، فينزل ويمشي فيها وحواليه حاشية ومن يرابّه من أولاده وأقاربه. فإذا وصل إلى الشبّاك، وجد تحته كرسيّاً كبيراً من حديد فيجلس عليه ورجلاه تطأ الأرض، فإذا جلس، رفع كلٌّ من زمام القصر وصاحب بيت المال الستر من جانبه فيرى الخليفة جالساً على مرتبة عظيمة، فيقف ويسلم ويخدم بيده في الأرض ثلاث مرّات، ثم يؤمر بالجلوس على كرسيه فيجلس. ويستفتح القرّاء بقراءة آيات لائقة بذلك المكان مقدار نصف ساعة؛ ثم يسلم الأمراء، ويشرع في عرض خيول الخاص المقدّم ذكرها واحدةً إلى آخرها. فإذا تكمل عرضها، قرأ القرّاء ما يناسب ختم ذلك المجلس. فإذا فرغوا أرخى الستر وقام الوزير فدخل عليه فقبل يديه ورجليه، ثم ينصرف عنه فيركب من مكان نزوله ويخرج الأمراء معه إلى خارج فيمضون معه إلى داره ركباناً ومشاة على حسب مراتبهم. فإذا صلى الخليفة الظهر، جلس لعرض خزانة الكسوة الخاص وتعيين ما يلبس في ذلك الموكب ولباسه فيه، فيعين منديلاً لشدّ التاج وبدلةً من هذا النوع، والجوهرة الثمينة وما معها من الجواهر المتقدّمة الذكر لشدّ التاج وتشدّ مظلّة تشبه تلك البذلة، وتلف في منديل دبيقيّ فلا يكشفها إلا حاملها عند ركوب الخليفة، ثم يشدّ لواءي الحمد المتقدّمي الذكر. فإذا كان أوّل يوم من العام، بكّر أرباب الرّتب من ذوي السيوف والأقلام فلا يصبح الصبح إلا وهم بين القصرين منتظرين ركوب الخليفة وهو يومئذ فضاء واسع خال من البناء ويبكر الأمراء إلى دار الوزير ليركبوا معه، فيخرج من داره ويركب إلى القصر من غير استدعاء وأمامه ما شرّفه به الخليفة من الألوية والأعلام، والأمراء بين يديه ركباناً ومشاة، وأولاده وأخوته قدّامه، وكل منهم مرخى الذؤابة بلا حنك، وهو في هيئة عظيمة من الثياب الفاخرة والمنديل والحنك متقلداً بالسيف الذهب. فإذا وصل إلى باب القصر، ترجل الأمراء ودخل راكباً إلى محل نزوله بدهليز القصر المعروف بدهليز العمود فيترجل هناك ويمشي في بقية الدهاليز حتى يصل إلى مقطع الوزارة بقاعة الذهب هو وأولاده وإخوته وخواص حاشيته، ويجلس الأمراء بالقاعة على دكك معدة لهم، ويدخل فرس الخليفة إلى باب المجلس الذي هو فيه، وعلى باب المجلس كرسي يركب من عليه. فإذا استوت الدابة إلى ذلك الكرسي، أخرجت المظلة إلى حاملها فيكشفها مما هي ملفوفة فيه ويتسلمها بإعانة أربعة معدين لخدمتها فيركز في آلة من حديد تشبه القرن المصطحب مشدودة في ركاب حاملها الأيمن بقوة، ويمسك العمود بحاجز فوق يده؛ ثم يخرج السيف فيتسلمه حامله، فإذا تسلمه أرخى ذؤابته فلا تزال مرخاة ما دام حاملاً له، ثم تخرج الدواة فيتسلمها حاملها ويجعلها قدامه بينه وبين السرج، ثم يخرج الوزير عن المقطع وينضم إليه الأمراء ويقفون إلى جانب فرس الخليفة، ويرفع صاحب المجلس الستر فيخرج من كان عند الخليفة للخدمة من الأستاذين، ويخرج الخليفة في أثرهم في ثيابه المختصة بذلك اليوم وعلى رأسه التاج الشريف والدرة اليتيمة على جبهته، وهو محنك مرخي الذؤابة مما يلي جانبه الأيسر متقلد بالسيف العربي وقضيب الملك بيده، ويسلم على الوزير قوم مرتبون لذلك، ثم على القاضي وعلى الأمراء بعدهما، ثم يخرج الأمراء وبعدهم الوزير فيركب ويقف قبالة باب القصر. ويخرج الخليفة راكباً وفرسه ماشيةٌ على بسط خشية أن تزلق على الرخام والأستاذون حوله. فإذا قارب الباب وظهر وجهه، ضرب رجلٌ ببوقٍ لطيف معوج الرأس متخذٍ من الذهب يقال له الغريبة مخالف لصوت الأبواق، فتضرب البوقات في المواكب، وتنشر المظلة، ويخرج الخليفة من باب القصر فيقف وقفةً يسيرة بمقدار ركوب الأستاذين المحنكين وغيرهم من أرباب الرتب الذين كانوا في الخدمة بالقاعة، ثم يسير الخليفة في الموكب وصاحب المظلة على يساره، وهو يحرص ألا يزول ظلها عن الخليفة، ثم يكتنف الخليفة مقدمو صبيان الركاب، اثنان منهم في شكيمتي لجام فرسه، واثنان في عنق الفرس من الجانبين، واثنان في رمابه من الجانبين أيضاً، والأيمن منهما هو صاحب المقرعة الذي ينأولها للخليفة ويتنأولها منه، وهو الذي يؤدي عن الخليفة مدة ركوبه الأوامر والنواهي، واللواءان المعروفان بلواءي الحمد عن جانبه، والمذبتان عند رأس فرس الخليفة، والركابية يمينه وشماله نحو ألف رجل مقلدو السيوف مشدودو الأوساط بالمناديل والسلاح، وهم من جانبي الخليفة كالجناحين المادين، بينهما فرجة لوجه الفرس ليس فيها أحد، وبالقرب من رأسها الصقلبيان الحاملان للمذبتين، وهما مرفوعتان كالنخلتين. وبترتيب الموكب: أجناد الأمراء وأولادهم وأخلاط العسكر أمام الموكب وأدوان الأمراء يلونهم، وبعدهم أرباب القضب الفضة من الأمراء، ثم أرباب الأطواق منهم، ثم الأستاذون المحنكون، ثم أهل الوزير المتقدم ذكرهم، ثم الحاملان للواءي الحمد من الجانبين، ثم حامل الدواة وحامل السيف بعده، وهما من الجانب الأيسر، وكل واحد ممن تقدم ذكره بين عشرة إلى عشرين من أصحابه، ثم الخليفة بين الركابية، وهو سائر على تؤدةٍ ورفقٍ، وفي أوائل العسكر ومتقدميه والي القاهرة ذاهباً وعائداً لسفح الطرقات وتسيير من يقف، وفي وسط العسكر اسفهسلار يحث الأجناد على الحركة ويزجر المتزاحمين والمعترضين في العسكر ذاهباً وعائداً، يلقى صاحب الباب اسفهسلارٌ، واسفسهلار يلقى والي القاهرة، وفي يد كل منهم دبوس، وخلف الخليفة جماعةٌ من الركابية لحفظ أعقابه، ثم عشرة يحملون عشرة سيوفٍ في خرائط ديباج أحمر وأصفر يقال لها سيوف الدم برسم ضرب الأعناق، وبعدهم الحاملون للسلاح الصغير المتقدم الذكر؛ ووراءه الوزير في هيئة عظيمة، وفي ركابه نحو خمسمائة رجل ممن يختاره لنفسه من أصحابه، وقوم يقال لهم صبيان الزرد من أقوياء الأجناد من جانبيه بفرجة لطيفة أمامه دون فرجة الخليفة مجتهداً ألا يغيب الخليفة عن نظره، وخلفه الطبول والصنوج والصفافير في عدة كثيرة تدوي من أصواتها الدنيا، ووراء ذلك حامل الرمح المقدم ذكره والدرقة المنسوبة إلى حمزة، ثم رجال الأساطيل مشاةً ومعهم القسي العربية، وتسمى قسي الرجل والركاب، ما يزيد على خمسمائة رجل؛ ثم طوائف الرجال من المصامدة، ثم الريحانية والجيوشية، ثم الفرنجية، ثم الوزيرية: زمرة بعد زمرةٍ في عدة وافرة تزيد على أربعة آلاف؛ ثم أصحاب الرايات والسبعين، ثم طوائف العساكر: من الآمرية والحافظية والحجرية الكبار والحجرية الصغار والأفضلية والجيوشية، ثم الأتراك المصطنعون، ثم الديلم، ثم الأكراد، ثم الغز المصطنعة وغيرهم ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس. قال ابن الطوير: وهذا كله بعضٌ من كل. وإذا ترتب الموكب على ذلك، سار من باب القصر الذي خرج منه بين القصرين، يسير بموكبة حتى يخرج من باب النصر ويصل إلى حوض كان هناك يعرف بعز الملك على القرب من باب النصر، ثم ينعطف على يساره طالباً باب الفتوح، وربما عطف عند خروجه من باب النصر على يساره، وسار بجانب السور حتى يأتي باب الفتوح فيدخل منه. وكيفما كان فإنه يدخل منه، ويسير الموكب حتى ينتهي بين القصرين فيقف العسكر هناك على ما كان عليه عند الركاب ويترجل الأمراء. فإذا انتهى الخليفة إلى الجامع الأقمر وقف هناك في جماعته ويتفرج الموكب للوزير فيتحرك مسرعاً ليصير أمام الخليفة. فإذا مر بالخليفة، سكع له سكعة ظاهرة، فيشير الخليفة بالسلام عليه إشارة خفيفة، وهذه أعظم كرامة تصدر من الخليفة، سبقه إلى باب القصر ودخل راكباً على عادته والأمراء أمامه مشاةٌ إلى الموضع الذي ركب منه بدهليز العمود المقدم ذكره، فيترجل هناك ويقف هو والأمراء لانتظار الخليفة. فإذا انتهى الخليفة إلى باب القصر، ترجل الأستاذون المحنكون ودخل الخليفة القصر وهو راكب والأستاذون محدقون به. فإذا انتهى إلى الوزير، مشى الوزير أمام وجه فرسه إلى الكرسي الذي ركب من عليه فيخدمه الوزير والأمراء، وينصرفون ويدخل الخليفة إلى دوره. فإذا خرج الوزير إلى مكان ترجله ركب، والأمراء بين يديه، وأقاربه حواليه إلى خارج باب القصر، فيركب منهم من يستحق الركوب، ويمشي من يستحق المشي، ويسيرون في خدمته إلى داره، فيدخل راكباً وينزل على كرسي فيخدمه الجماعة وينصرفون، وقد رأى الناس من حسن الموكب ما أبهجهم وراق خواطرهم، ويتفرق الناس إلى أماكنهم فيجدون الخليفة قد أرسل إليهم الغرة: وهي دنانير رباعية ودراهم خفاف مدورة، ويكون الخليفة قد أمر بضربها في العشر الأخير من ذي الحجة برسم التفرقة في هذا اليوم، لكل واحد من الوزير والأمراء وأرباب المراتب من حملة السيوف والأقلام قدرٌ مخصوص من ذلك، فيقبلونها على سبيل التبرك من الخليفة، ويكتب إلى البلاد والأعمال مخلقات بالبشائر بركوب أول العام كما يكتب بوفاء النيل وركوب الميدان الآن. الموكب الثاني ركوب أول شهر رمضان: وهو قائم عند الشيعة مقام رؤية الهلال، والأمر في العرض واللباس والآلات والركوب والموكب وترتيبه والطرق المسلوكة على ما تقدم في أول العام من غير فرق، ويكتب فيه المخلقات بالبشائر كما يكتب في أول العام. الموكب الثالث ركوبه في أيام الجمع الثلاث من شهر رمضان: وهي الجمعة الثانية والثالثة والرابعة، وذلك أنه إذا ركب إلى الجامع الأنور بباب البحر، بكر صاحب بيت المال إلى الجامع بالفرش المختص بالخليفة محمولاً على أيدي أكابر الفراشين ملفوفاً في العراضي الدبيقية، فيفرش في المحراب ثلاث طراحات إما شاميات، وإما دبيقي أبيض، منقوشة بالحمرة، وتفرش واحدة فوق واحدة، ويعلق ستران يمنةً ويسرةً في الستر الأيمن مكتوب برقم حرير أحمر سورة الفاتحة وسورة الجمعة، وفي الستر الأيسر سورة الفاتحة وسورة المنافقين كتابةً واضحة مضبوطة، ويصعد قاضي القضاة المنبر، وفي يده مدخنة لطيفة خيزران يحضرها إليه صاحب بين المال وفيها ند مثلث لا يشم مثله إلا هناك، فيبخر ذروة المنبر التي عليها القنا كالقبة لجلوس الخليفة للخطابة ثلاث دفعات، ويركب الخليفة في هيئة ما تقدم في أول العام وأول رمضان: من المظلة والآلات، ولباسه فيه الثياب البياض غير المذهبة توقيراً للصلاة، والمنديل والطيلسان المقورة. وحول ركابه خارج الركابية قراء الحضرة من الجانبين يرفعون أصواتهم بالقراءة نوبةً بعد نوبةٍ من حين ركوبه من القصر إلى حين دخوله قاعة الخطابة، فيدخل من باب الخطابة فيجلس فيها، وإن احتاج إلى تجديد وضوء فعل، وتحفظ المقصورة من خارجها بترتيب أصحاب الباب واسفسلار وصبيان الخاص، وغيرهم ممن يجري مجراهم من أولها إلى آخرها، وكذلك من داخلها من باب خروجه إلى المنبر. فإذا أذن للجمعة دخل إليه قاضي القضاة، فقال: السلام على أمير المؤمنين الشريف القاضي الخطيب ورحمه الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله، فيخرج ماشياً وحواليه الأستاذون المحنكون والوزير وراءه ومن يليهم من الأمراء من صبيان الخاص، وبأيديهم الأسلحة حتى ينتهي إلى المنبر فيصعد حتى يصل إلى الذروة تحت القبة المبخرة، والوزير على باب المنبر ووجهه إليه. فإذا استوى جالساً أشار الوزير بالصعود فيصعد إلى أن يصل إليه، فيقبل يديه ورجليه بحيث يراه الناس، ثم يزر عليه تلك القبة وتصير كالهودج، ثم ينزل مستقبلاً للخليفة ويقف ضابطاً للمنبر فإن لم يكن وزيرٌ صاحب سيف، كان الذي يزر عليه قاضي القضاة، ويقف صاحب الباب ضابطاً للمنبر، فيخطب خطبة قصيرة من سفط يأتي إليه من ديوان الإنشاء، ويقرأ فيها آيةً من القرآن الكريم، ثم يصلي فيها على أبيه وجده يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي بن بي طالب كرم الله وجهه، ويعظ الناس وعظاً بليغاً قليل اللفظ، ويذكر من يلف من آبائه حتى يصل إلى نفسه فيقول: اللهم وأنا عبدك وابن عبديك لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً، ويتوسل بدعوات فخمة تليق به، ويدعو للوزير إن كان ثم وزيرٌ وللجيوش بالنصر والتآللف، وللعساكر بالظفر، وعلى الكافرين والمخالفين بالهلاك والقهر، ثم يختم بقوله {اذكروا الله يذكركم} فيطلع إليه من زر عليه فيفك ذلك التزرير عنه، وينزل القهقري، فيدخل المحراب ويقف على تلك الطراحات إماماً والوزير وقاضي القضاة صفاً، ومن ورائهما الأستاذون المحنكون والأمراء المطوقون وأرباب الرتب من أصحاب السيوف والأقلام والمؤذنون وقوفٌ وظهورهم لحائط المقصورة، والجامع مشحون بالعالم للصلاة وراءه فيقرأ في الركعة الأولى ما هو مكتوب في الستر الأيمن، وفي الثانية ما في الستر الأيسر. فإذا سمع الخليفة، سمع القاضي المؤذنين، فيسمع المؤذنون الناس. فإذا فرغ خرج الناس وركبوا أولاً فأولاً وعاد إلى القصر والوزير وراءه حتى يأتي إلى القصر، والطبول والبوقات تضرب ذهاباً وإياباً. فإذا كانت الجمعة الثالثة من الشهر، ركب إلى الجامع الأزهر كذلك وفعل كما فعل في الجمعة الأولى، لا يختلف في ذلك غير الجامع. فإذا كانت الجمعة الرابعة منه، ركب إلى الجامع العتيق بمصر ويزين له أهل القاهرة من باب القصر إلى الجامع الطولوني، ويزين له أهل مصر من الجامع الطولوني إلى الجامع العتيق، وقد ندب الواليان بالبلدين من يحفظ الناس والزينة ويركب من باب القصر ويسير في الشارع الأعظم بمصر، يمشي في شارع واحد بين العمارة إلى الجامع العتيق بمصر فيفعل كما فعل في الجمعين الأولين من غير مخالفة. فإذا قضى الصلاة، عاد إلى القاهرة من طريقه تلك إلى أن يصل إلى قصره. وفي خلال ذلك كله لا يمر بمسجد إلا أعطى أهله ديناراً على كثرة المساجد في طريقه. الموكب الرابع ركوبه لصلاة عيدي الفطر والأضحى: أما عيد الفطر- فيقع الاهتمام بركوبه في العشر الأخير من رمضان، وتعبى أهبة المواكب على ما تقدم في أول العام وغيره، وكان خارج باب النصر مصلى على ربوةٍ وجميعها مبني بالحجر، ولها سور دائر عليها وقلعة على بابها، وفي صدرها قبةٌ كبيرة في صدرها محراب، والمنبر إلى جانب القبة وسط المصلى مكشوفاً تحت السماء، ارتفاعه ثلاثون درجة وعرضه ثلاثة أذرع، وفي أعلاه مصطبةٌ. فإذا كمل رمضان، وهو عندهم ثلاثون يوماً من غير نقص، فإذا كان اليوم الأول من شوال، سار صاحب بيت المال إلى المصلى خارج باب النصر، وفرش الطراحات بمحراب المصلى، كما تقدم في الجوامع في أيام الجمع، ويعلق سترين يمنة ويسرة، وفي الأيمن الفاتحة وسبح باسم ربك الأعلى، وفي الأيسر الفاتحة، وهل أتاك حديث الغاشية، ويركز في جانبي المصلى لواءين مشدودين على رمحين ملبسين بأنابيب الفضة، وهما منشوران مرخيان، ويوضع على ذروة المنبر طراحة من شاميات أو دبيقي، ويفرش باقية بستر من بياض، على مقداره في تقاطيع درجة مضبوطة لا تتغير بالمشي وغيره، ويجعل في أعلاه لواءان مرموقان بالذهب يمنةً ويسرةً، ثم سار الوزير من داره إلى قصر الخليفة على عادته المتقدمة الذكر، ويركب الخليفة بهيئة المواكب العظيمة على ما تقدم في أول العام: من المظلة والتاج وغير ذلك من الآلات، ويكون لباسه في هذا اليوم الثياب البيض الموشحة المجومة، وهي أجل لباسه ومظلته كذلك، ويخرج من باب العيد على عادته في ركوب المواكب إلا أن العساكر في هذا اليوم من الأمراء والأجناد والركبان والمشاة تكون أكثر من غيره، وينتظم القوم له صفين من باب القصر إلى المصلى، ويركب الخليفة إلى المصلى فيدخل من شرقيها إلى مكان يستريح فيه دقيقةً، ثم يخرج محفوظاً بحاشيته كما في صلاة الجمع المتقدمة الذكر فيصير إلى المحراب، والوزير والقاضي وراءه كما تقدم، فيصلي صلاة العيد بالتكبيرات المسنونة، ويقرأ في الركعة الأولى ما في الستر الذي على يمينه، وفي الثانية ما في الستر الذي على يساره. فإذا فرغ وسلم، صعد المبر لخطابة العيد، فإذا انتهى إلى ذروة المنبر، جلس على تلك الطراحة بحيث يراه الناس، ويقف أسفل المنبر الوزير، وقاضي القضاة، وصاحب الباب واسفهسلار، وصاحب السيف، وصاحب الرسالة، وزمام القصر، وصاحب دفتر المجلس، وصاحب المظلة، وزمام الأشراف الأقارب، وصاحب بيت المال، وحامل الرمح، ونقيب الأشراف الطالبين. ووجه الوزير إليه فيشير إليه فيصعد ويقرب وقوفه منه ويكون وجهه موازياً رجليه فيقبلهما بحيث يراه الناس، ثم يقوم فيقف على يمنة الخليفة. فإذا وقف أشار إلى قاضي القضاة بالصعود يصعد إلى سابع درجة، ثم يتطلع إليه منتظراً ما يقول، فيشير إليه فيخرج من كمه درجاً قد أحضر إليه في أمسه من ديوان الإنشاء بعد عرضه على الخليفة والوزير، فيعلن بقراءة مضمونة ويقول بعد البسملة: ثبتٌ بمن شرف بصعود المنبر الشريف في يوم كذا، وهو عيد الفطر من سنة كذا من عند أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين بعد صعود السيد الأجل.... يذكر نعوت الوزير المقررة والدعاء له ثم ذكر من يشرفه الخليفة بصعود المنبر من أولاد الوزير، ثم ذكر القاضي ولكنه يكون هو القاريء للثبت فلا يسعه ذكر نعوته فيقول: المملوك فلان بن فلان ونحو ذلك، ثم الواقفين على باب المنبر ممن تقدم ذكره بنعوتهم واحداً واحداً، وكلما ذكر واحداً استدعاه وطلع المنبر، كل منهم يعرف مقامه في المنبر يمنةً ويسرةً. فإذا لم يبق أحد ممن أطلع إلى المنبر، أشار الوزير إليهم فأخذ كل من هو في جانب بيده نصيباً من اللواء الذي بجانبه فيستتر الخليفة ويستترون، وينادي في الناس بالإنصات، فيخطب الخليفة خطبة بليغةً مناسبة لذلك المقام، يقرؤها من السفط الذي يحضر إليه مسطراً من ديوان الإنشاء كما جمع رمضان المتقدمة الذكر. فإذا فرغ من الخطبة، ألقى كل من في يده شيءٌ من اللواء خارج المنبر، فينكشفون وينزلون القهقري أولاً بأول الأقرب فالأقرب. فإذا خلا المنبر للخليفة، هبط ودخل المكان الذي خرج منه، فيلبث قليلاً ثم يركب في هيئته التي أتى فيها إلى المصلى، ويعود في طريقه التي أتى منها. فإذا قرب من القصر، تقدمه الوزير على العادة، ثم يدخل من باب العيد الذي خرج منه، فيجلس في الشباك الذي في الإيوان الكبير، وقد مد منه إلى فسقية في وسط الإيوان مقدار عشرين قصبة سماطٌ فيه من الخشكنان والبستندود، وغير ذلك مما يعمل في العيد مثل الجبل الشاهق، كل قطعة ما بين ربع قنطار إلى رطل واحد، فيأكل من يأكل وينقل من ينقل لا حجر عليه ولا مانع دونه، ثم يقوم من الإيوان فيركب إلى قاعة الذهب فيجد سرير الملك قد نصب، ووضع له مائدة من فضة، ومد السماط تحت السرير فيترجل عن السرير، ويجلس على المائدة، ويستدعى الوزير فيجلس معه، ويجلس الأمراء على السماط ولا يزال كذلك حتى يستهدم السماط قريب صلاة الظهر؛ ثم يقوم وينصرف الوزير إلى داره والأمراء في خدمته فيمد لهم سماطاً يأكلون منه وينصرفون. وأما عيد الأضحى- فإنه إذا دخل ذي الحجة وقع الاهتمام بركوبه. فإذا كان يوم العيد، ركب الخليفة على ما تقدم في عيد الفطر من الزي والترتيب والركوب إلى المصلى، ويكون لباس الخليفة فيه الأحمر الموشح، ومظلته كذلك، ويخرج إلى المصلى خارج باب النصر ويخطب، ثم يعود إلى القصر يخرج من باب الفرج، وهو باب القصر الذي كان مسامتاً لدار سعيد السعداء التي هي الخانقاه الآن، فيجد الوزير راكباً على الباب المذكور، فيترجل الوزير، ويمشي في خدمته إلى المنحر، وهو خارج الباب المذكور. وكان إذا ذاك الفضاء واسعاً لابناء فيه، وهناك مصطبة مفروشة فيطلع عليها الخليفة والوزير وقاضي القضاة والأستاذون المحنكون وأكابر الدولة، ويكون قد سبق إلى المنحر أحدٌ وثلاثون فصيلاً ناقةً للأضحية، وبيده حربة، وقاضي القضاة ممسك بأصل سنانها، وتقدم إليه الأضحية رأساً رأساً فيجعل القاضي السنان في نحر النحيرة ويطعن به الخليفة في لبتها، فتخر بين يديه حتى يأتي على الجميع، ثم يسير رسوم الأضحية إلى أرباب الرسوم المقررة، وفي اليوم الثاني يساق إلى المنحر سبعةٌ وعشرون راساً، ويركب الخليفة فيفعل بها كذلك، وفي اليوم الثالث يساق إليه ثلاثٌ وعشرون رأساً فيفعل بها كذلك. فإذا انقضى ذلك في اليوم الثالث وعاد الخليفة إلى القصر خلع على الوزير ثيابه الحمر التي كانت عليه يوم العيد، ويشق القاهرة بالشارع سالكاً إلى الخليج فيسير عليه حتى يدخل من باب القنطرة إلى دار الوزارة، وبذلك انفصال العيد. ثم أول نحيرة تنحر تقدد وتسير إلى داعي اليمن فيفرقها على المعتقدين من وزن نصف درهم إلى وزن ربع درهم، وباقي ذلك يفرق على أرباب الرسوم في أطباق للبركة، وأكثره يفرقه قاضي القضاة وداعي الدعاة على الطلبة بدار العدل والمتصدرين بجوامع القاهرة، وفي اليوم الأول يمد السماط بقاعة الذهب على ما تقدم في عيد الفطر من غير فرق. الموكب الخامس ركوبه لتخليق المقياس عند وفاء النيل: قد تقدم عند ذكر النيل في الكلام على الديار المصرية ابتداء زيادة النيل ووفاؤه وانتهاؤه، وذكر المناداة عليه على ما الأمر مستقر عليه. إلا أنه في زمن هؤلاء الخلفاء لم يكن ينادي عليه قبل الوفاء، وإنما يؤخذ قاعة وتكتب به رقعةٌ للخليفة والوزير، ثم ينزل بديوان الرسائل في مسير معد له في الديوان، ويستمر الحال على ذلك في كل يوم ترفع رقعة إلى ديوان الإنشاء بالزيادة لا يطلع عليها غير الخليفة والوزير، وأمره مكتوم إلى أن يبقى من ذراع الوفاء وهو السادس عشر أصبعٌ أو أصبعان، فيؤمر بأن يبيت في جامع المقياس تلك الليلة قراء الحضرة والمتصدرون بالجوامع بالقاهرة ومصر ومن يجري مجراهم لختم القرآن لكريم في تلك الليلة هناك، ويمد لهم السماط بالأطعمة الفاخرة، وتوقد عليهم الشموع إلى الصبح. فإذا أصبح الصبح وأذن الله تعالى بوفاء النيل في تلك الليلة، طلعت رقعة ابن أبي الرداد إلى الخليفة، فتحضر إليه بالقصر، فيركب الخليفة في هيئة عظيمة الثياب الفاخرة والموكب العظيم، إلا أنه لا يلبس التاج الذي فيه اليتيمة، ولا يخلي المضلة على رأسه في ذلك اليوم؛ ويركب الوزير وراءه في الجمع العظيم على ترتيب الموكب؛ ويخرج من القصر شاقاً القاهرة إلى باب زويلة فيخرج منه، ويسلك الشارع إلى أن يجاوز البستان المعروف بعباس عند رأس صليبة بالقرب من الخانقاه الشيخونية الآن، فيعطف سالكاً على الجامع الطولوني والجسر الأعظم حتى يأتي مصر، ويدخل من الصناعة، وهي يومئذ في غاية العمارة، وبها دهليزٌ ممتد بمصاطب مفروشةٍ بالحصر العبداني مؤزر بها، ويخرج من بابها شاقاً مصر حتى يأتي المنظرة المعروفة برواق الملك على القرب من باب القنطرة، فيدخلها من الباب المواجه له والوزير معه ماشياً إلى المكان المعد له، ويكون العشاري الخاص المعبر عنه الآن بالحراقة واقفاً هناك بشاطيء النيل، وقد حمل إليه من القصر بيتٌ مثمن من العاج والآبنوس كل جانب منه ثلاثة أذرع، وطوله قامة رجل تام، فيركب بالعشاري المذكور وعليه قبة من خشب محكم الصنعة، وهو وقبته ملبس صفائح الفضة المذهبة، ثم يخرج الخليفة من دار الملك المذكور ومعه من الاستاذين المحنكين من يختاره من ثلاثة إلى أربعة، ثم يطلع خواص الخليفة إلى العشاري والوزير ومعه من خواصه اثنان أو ثلاثة لا غير، فيجلس الوزير في رواقٍ بظاهر البيت المذكور، بفوانيس من خشب مخروط مدهونة مذهبةٍ، بستور مسدلة عليه، ويسير العشاري من باب المنظرة إلى باب المقياس العالي على الدرج، فيطلع من العشاري، ويدخل إلى الفسقية التي فيها المقياس، والوزير والأستاذون المحنكون بين يديه، فيصلي هو والوزير كل منهما ركعتين بمفرده، ثم يؤتى بالزعفران والمسك فيديفة في إناء بيده بآلة معه، ويتنأوله صاحب بيت المال فينأوله لابن أبي الرداد، فيلقي نفسه في الفسقية بثيابه فيتعلق في العمود برجليه ويده اليسرى ويخلقه بيده اليمنى، وقراء الحضرة من الجانب الآخر يقرأون القرآن؛ ثم يخرج على فوره راكباً في العشاري المذكور، ثم يعود إلى دار الملك، ويركب منها عائداً إلى القاهرة؛ وتارة ينحدر في العشاري إلى المقس، ويتبعه الموكب فيسير من هناك إلى القاهرة. ويكون في البحر ذلك اليوم نحو ألف مركب مشحونة بالناس للتفرج وإظهار الفرح. فإذا كان اليوم الثاني من التخليق أتى ابن أبي الرداد إلى الإيوان الكبير الذي فيه الشباك بالقصر فيجد خلعة مذهبة بطيلسانٍ مقور، ويدفع إليه خمسة أكياس في كل كيس خمسمائة درهم مهيأة له، فيلبس الخلعة، ويخرج من باب العيد المتقدم ذكره في أبواب القصر، وقد هييء له خمسة بغال على ظهورها الأحمال المزينة بالحلي، على ظهر كل منها راكب وببيده أحد الأكياس الخمسة المتقدمة الذكر ظاهرٌ في يده، وأقاربه وبنو عمه يحجبونه وأصدقاؤه حوله، وأمامه حملان من النقارات السلطانية، والأبواق تضرب أمامه، والطبل وراءه مثل الأمراء؛ فيشق بين القصرين، وكلما مر على باب من أبواب القصر يدخل منه الخليفة أو يخرج، نزل فقبله، ويخرج من باب زويلة في الشارع الأعظم حتى يأتي مصر فيشق وسطها ويمر بالجامع العتيق، ويجاوزه إلى شاطئ النيل فيعدي إلى المقياس بخلعته وما معه من الأكياس، فيأخذ من الأكياس قدراً مقرراً له، ويفرق باقي ذلك على أرباب الرسوم الجارية، من قديم الزمان من بني عمه وغيرهم. الموكب السادس ركوبه لفتح الخليج: وهو في اليوم الثالث أو الرابع من يوم التخليق المتقدم ذكره، وليس كما في زماننا من فتحه في يوم التخليق؛ وكان يقع الاهتمام عندهم بركوب هذا اليوم من حين يأخذ النيل في الزيادة، وتعمل في بيت المال موائد من التماثيل المختلفة: من الغزلان، والسباع، والفيلة، والزراريف عدة وافرة، منها ما هو ملبس بالعنبر، وما هو ملبس بالصندل، مفسرة الأعين والأعضاء بالذهب، وكذلك يعمل أشكال التفاح والأترج وغير ذلك، وتخرج الخيمة العظيمة المعروفة بالقاتول المتقدمة الذكر فتنصب للخليفة في بر الخليج الغربي على حافته عند منظرة يقال لها السكرة على القرب من فم الخليج، ويلف عمود الخيمة بديباج أحمر أو أبيض أو أصفر من أعلاه إلى أسفله، وينصب فيها سرير الملك مستنداً إليه ويغشى بقرقوبي، وعرانيسه ذهبٌ ظاهرة، ويوضع عليه مرتبة عظيمة من الفرش للخليفة؛ ويضرب لأرباب الرتب من الأمراء بحجري هذه الخيمة خيمٌ كثيرة على قدر مراتبهم في المقدار والقرب من خيمة الخليفة؛ ثم يركب الخليفة على عادته في المواكب العظيمة بالمظلة وتوابعها من السيف والرمح والألوية والدواة وسائر الآلات، ويزاد فيه أربعون بوقاً: عشرة من الذهب وثلاثون من الفضة، يكون المنفرون بها ركباناً، والمنفرون بالأبواق النحاس مشاةً، ومن الطبول العظام عشرة طبول. فإذا كان يوم الركوب، حضر الوزير من دار الوزارة راكباً في هيئة عظيمة، ويركب حينئذ إلى باب القصر الذي يخرج منه الخليفة، ويخرج الخليفة من باب القصر راكباً والأستاذون المحنكون مشاةٌ حوله، وعليه ثوب يسمى البدنة حريرٌ مرقومٌ بذهب، لا يلبسه غير ذلك اليوم، والمظلة بنسبته؛ فيركب الأستاذون المحنكون ويسير الموكب على الترتيب المتقدم في ركوب أول العام سائراً في الطريق التي ذهب فيها للتخليق حتى يأتي الجامع الطولوني؛ ويكون قاضي القضاة وأعيان الشهود جلوساً ببابه من هذه الجهة، فيقف لهم الخليفة وقفةً لطيفةً، ويسلم على القاضي، فيتقدم القاضي ويقبل رجله التي من جانبه، ويأتي الشهود أمام وجه فرس الخليفة، ويقفون بمقدار أربعة أذرع عن الخليفة فيسلم عليهم، ثم يركبون ويسير الموكب حتى يأتي ساحل الخليج، فيسير حتى يقارب الخليفة الخيمة، فيتقدمه الوزير على العادة، فيترجل على باب الخيمة، ويجلس على المرتبة الموضوعة له فوقه ويحيط به الأستاذون المحنكون والأمراء المطوقون بعدهم؛ ويوضع للوزير كرسيه الجاري به العادة على ما تقدم في جلوسه في القصر، فيجلس رجلاه يحكان الأرض، ويقف أرباب الرتب صفين من سرير الملك إلى باب الخيمة، وقراء الحضرة يقرأون القرآن ساعة زمانية. فإذا فرغوا من القراءة استأذن صاحب الباب على حضور الشعراء للخدمة، فيؤذن لهم فيتقدمون واحداً بعد واحد على مقدار منازلهم المقررة لهم، وينشد كل منهم ما وقع له نظمه مما يناسب الحال. فإذا فرغ أتى غيره وأنشد ما نظمه إلى أن يفرغ إنشادهم، والحاضرون ينتقدون على كل شاعر ما يقوله، ويحسنون منه ما حسن ويوهون منه ما وهى. فإذا انقضى هذا المجلس، قام الخليفة عن السرير فركب إلى المنظرة المعروفة بالكسرة بقرب الخيمة والوزير بين يديه، وقد فرشت بالفرش المعدة لها، فيجلس الخليفة بمكان معد له منها، ويجلس الوزير بمكان منها بمفرده، ويجلس القاضي والشهود في الخيمة البيضاء الدبيقية، فيطل منها أستاذ من الأستاذين المحنكين فيشير بفتح السد فيفتح بالمعأول، وتضرب الطبول والأبواق من البرّين، وفي أثناء ذلك يصل السماط من القصر صحبة صاحب المائدة القائم مقام أستاذ دار الصحبة الآن، وعدّتها مائة شدّة في الطيافير الواسعة في القواوير الحرير، وفوقها الطرّاحات النفيسة، وريح المسك والأفاوية تفوح منها، فتوضع في خيمة وسيعة معدة لذلك؛ ويحمل منها للوزير وأولاده ما جرت به عادتهم، ثم لقاضي القضاة والشهود، ثم إلى الأمراء على قدر مراتبهم: على أنواع الموائد من التماثيل المقدمة الذكر خلا القاضي والشهود، فإنه لايكون في موائدهم تماثيل. فإذا اعتدل الماء في الخليج دخلت فيه العشاريات اللطاف ووراءها العشاريات الكبار، وهي سبعة: الذهبي المختص بالخليفة، وهو الذي يركب فيه يوم التخليق، والفضيّ، والأحمر، والأصفر، والأخضر، واللاّزورديّ، والصقليّ، وهو عشاري أنشأه نجار من صقلية على الإنشاء المعتاد فنسب إليه، وعليها الستورالدبيقي الملونة، وفي أعناقها الأهلة وقلائد العنبر والخرز الأزرق، وتسير حتى ترسو على بر المنظرة التي فيها الخليفة. فإذا صلى الخليفة العصر، ركب لابساً غير الثياب التي كانت عليه في أول النهار ومظلته مناسبة لثيابه التي لبسها، وباقي الموكب على حاله، ويسير في البر الغربي من الخليج شاقاً للبساتين حتى يصل إلى باب القنطرة فيعطف على يمينه ويسير إلى القصر، والوزير تابعه على الرسم المعتاد، فيدخل الخليفة قصره، ويمر الوزير إلى داره على عادته في مثل ذلك اليوم. وذكر القاضي محي الدين بن عبد الظاهر: أنه إذا ركب من المنظرة المعروفة بالسكرة، سار في بر الخليج الغربي على ما تقدم ذكره حتى يأتي بستان الدكة، وقد علقت دهاليزه بالزينة فيدخله وحده ويسقي منه فرسه، ثم يخرج حتى يقف على الرعنة المعروفة بخليج الدار، ويدخل من باب القنطرة ويسير إلى قصره. النوع الثاني من مواكبهم المواكب المختصرة في أثناء السنة: وهي أربعة أيام أو خمسة فيما بين أول العام ورمضان ولا تعدى ذلك يومي السبت والثلاثاء. فإذا عزم على الركوب في يوم من هذه الأيام، قدم تفرقة السلاح على الركابية على ما تقدم ذكره في أول العام، وأكثر ما يكون ركوبه إلى مصر، فيركب الوزير وراءه على أخصر من النظام المتقدم له في المواكب العظام وأقل جمعاً، ولبسه في هذه الأيام الثياب المذهبة من البياض الملون ومنديلٌ من نسبة ذلك مشدودة بشدة غير شدات غيره، وذوائبه مرخاة تقرب من جانبه الأيسر، وهو مقلد بالسيف العربي المجوهر بغير حنك ولا مظلة، ويخرج شاقاً القاهرة في الشارع الأعظم حتى يجاوز الجامع الطولوني على المشاهد إلى الجامع العتيق. فإذا وصل إلى بابه، وجد الخطيب قد وقف على مصطبة بجانبه فيها محراب، مفروشةٍ بحصير وعليها سجادة معلقة، وفي يده المصحف الكريم المنسوب خطه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فينأوله المصحف من يده فيقبله ويتبرك به ويأمر له بعطاء يفرق على أهل الجامع. الضرب الثالث من هيئة الخليفة هيئته في قصوره: قال ابن الطوير: كان له ثياب يلبسها في الدور أكمامها على النصف من أكمام ثيابه التي يلبسها في المواكب، وكان من شأنه أنه لا ينصرف من مكان إلى مكان في القصر في ليل أو نهار إلا هو راكب، ولا يقتصر في القصر على ركوب الخيل بل يركب البغال والحمير والإناث لما تدعوه الضرورة إليه من الجواز في السراديب القصيرة والطلوع على الزلاقات إلى أعلى المناظر والمساكن، وله في الليل نسوة برسم شد ما يحتاج إلى ركوبه من البغال والحمير، وفي كل محلة من محلات القصر فسقيةٌ مملوءة بالماء خفيةً من حدوث حريق في الليل، ويبيت خارج القصر في كل ليلة خمسون فارساً للحراسة. فإذا أذن بالعشاء الآخرة داخل قاعة الذهب وصلى الإمام الراتب فيها بالمقيمين من الأستاذين وغيرهم، ووقف على باب القصر أميرٌ يقال له سنان الدولة- مقام أمير جاندرا الآن - فإذا علم بفراغ الصلاة تضرب البوقية من الطبول والبوقات وتوابعها على طريق مستحسنة ساعةً زمانية، ثم يخرج أستاذ برسم هذه الخدمة فيقول: أمير المؤمنين يرد على سنان الدولة السلام، فيغرز سنان الدولة حربةً على الباب ثم يرفعها بيده، فإذا رفعها أغلق الباب، ودار حول حول القصر سبع دورات. فإذا انتهى ذلك جعل على الباب البوّاقين والفرّاشين وأوى المؤذّنون إلى خزائن لهم هناك وترمى السلسة عند المضيق، آخر بين القصرين عند السيوفيين فينقطع المارّ من ذلك المكان إلى أن تضرب البوقية سحراً قرب الفجر فترفع السلسلة ويجوز الناس من هناك. الجملة السادسة في اهتمامهم بالأساطيل وحفظ الثغور واعتنائهم بأمر الجهاد وسيرهم في رعاياهم واستمالة قلوب مخالفيهم: أما اهتمامهم بالأساطيل وحفظ الثغور- واعتناؤهم بأمر الجهاد، فكان ذلك من أهم أمورهم، وأجلّ ما وقع الاعتناء به عندهم. وكانت اساطيلهم مرتبة بجميع بلادهم الساحلية كالإسكندرية ودمياط من الديار المصرية، وعسقلان وعكّا وصور وغيرها من سواحل الشام، حين كانت بأيديهم، قبل أن يغلبهم عليها الفرنج؛ وكانت جريدة قوّادهم تزيد على خمسة آلاف مقاتل مدونة، وجوامكهم في كل شهر من عشرين ديناراً إلى خمسة عشر ديناراً إلى عشرة إلى ثمانية إلى دينارين، وعلى الأسطول أميرٌ كبيرٌ من أعيان الأمراء وأقوالهم جأشاً، وكان أسطولهم يومئذ يزيد على خمسة وسبعين شينيّاً وعشر مسطحات وعشر حمالات، وعمارة المراكب متواصلة بالصناعة لا تنقطع. فإذا أراد الخليفة تجهيزها للغزو، جلس للنفقة بنفسه حتى يكملها، ثم يخرج مع الوزير إلى ساحل النيل بالمقسم، فيجلس في منظرةٍ كانت بجامع باب البحر والوزير معه للموادعة، ويأتي القوّاد بالمراكب إلى تحت المنظرة، وهي مزينة بالأسلحة والمنجنيقات واللعب منصوبة في بعضها، فتسيّر بالمجاديف ذهاباً وعوداً كما يفعل حالة القتال، ثم يحضر إلى بين يدي الخليفة المقدّم والريّس فيوصيهما ويدعو لهما بالسلامة، وتنحدر المراكب إلى دمياط وتخرج إلى البحر الملح فيكون لها في بلاد العدوّ الصّيت والسّمعة. فإذا غنموا مركباً اصطفى الخليفة لنفسه السبي الذي فيه من رجال أو نساء أو أطفال، وكذلك السلاح، وما عدا ذلك يكون للغانمين لا يساهمون فيه. وكان لهم أيضاً أسطول بعيذاب يتلقّى به الكارم فيما بين عيذاب وسواكن، وما حولها خوفاً على مراكب الكارم من قوم كانوا بجزائر بحر القلزم هناك يعترضون المراكب، فيحميهم الأسطول منهم، وكان عدّة هذا الأسطول خمسة مراكب، ثم صارت إلى ثلاث، وكان والي قوص هو المتولّي لأمر هذا الأسطول، وربما تولاه أمير من الباب، ويحمل إليه من خزائن السلاح ما يكفيه. وأما سيرهم في رعيتهم- واستمالة قلوب مخالفيهم، فكان لهم الإقبال على من يفد عليهم من أهل الأقاليم جلّ أو دقّ، ويقابلون كل أحد بما يليق به من الإكرام، ويعوضون أرباب الهدايا بأضعافها، وكانوا يتألفون أهل السنة والجماعة ويمكنونهم من إظهار شعائرهم على اختلاف مذاهبهم، ولا يمنعون من إقامة صلاة التراويح في الجوامع والمساجد على مخالفة معتقدهم في ذلك بذكر الصحابة رضوان الله عليهم، ومذاهب مالك والشافعي وأحمد ظاهرة الشعار في مملكتهم، بخلاف مذهب أبي حنيفة، ويراعون مذهب مالك، ومن سألهم الحكم به أجأبوه، وكان من شأن الخليفة أنه لا يكتب في علامته إلا الحمد لله رب العالمين، ولا يخاطب أحداً في مكاتبته إلا بالكاف حتى الوزير صاحب السيف، وإنما المكاتبات عن الوزير هي التي تتفاوت مراتبها، ولا يخاطب عنهم أحدٌ إلا بنعت مقرر له ودعاء معروف به، ويراعون من يموت في خدمتهم في عقبة، وإن كان له مرتب نقلوه إلى ذريته من رجال أو نساء. الجملة السابعة في إرجاء الأرزاق والعطاء لأرباب الخدم بدولتهم وما يتصل بذلك من الطعمة: أما إجراء الأرزاق والعطاء- فقد تقدم أن ديوان الجيوش كان عندهم على ثلاثة أقسام: قسم يختص بالعرض وتحلية الأجناد وشيات دوابهم، وقسم يختص بضبط إقطاعات الأجناد، وقسم يختص بمعرفة ما لكل مرتزق في الدولة من راتب وجار وجراية، ولكل من الثلاثة كتابٌ يختصون بخدمته. والقسم الثالث هو المقصود هنا؛ وكان راتبهم فيه بالدنانير الجيشية وكان يشتمل على ثمانية أقسام: الأول- فيه راتب الوزير وأولاده وحاشيته. فراتب الوزير في كل شهر خمسة آلاف دينار، ومن يليه من ولد أو أخ من ثلثمائة دينار إلى مائتي دينار، ولم يقرر لولد وزير خمسمائة دينار سوى الكامل بن شاور، ثم حواشيه من خمسمائة دينار، إلى أربعمائة دينار، إلى ثلثمائة دينار خارجاً عن الإقطاعات. الثاني- فيه حواشي الخليفة. فأولهم الأستاذون المحنكون على رتبهم. فزمام القصر، وصاحب بيت المال، وحامل الرسالة، وصاحب الدفتر، وشاد التاج، وزمام الأشراف الأقارب، وصاحب المجلس، لكل واحد منهم في الشهر مائة دينار، ثم من دونهم من تسعين ديناراً إلى عشرة دنانير على تفاوت الرتب. وفي هذا طبيبا الخاص، ولكل واحد منهما في الشهر خمسون ديناراً، ولمن دونهما من الأطباء المقيمين بالقصر لكل واحد عشرة دنانير. الثالث- فيه أرباب الرتب بحضرة الخليفة. فأول مسطور فيه كاتب الدست- وهو المعبر عنه الآن بكاتب السر؛ وله في الشهر مائة وخمسون ديناراً، ولكل واحد من كتابه ثلاثون ديناراً؛ ثم الموقع بالقلم الدقيق، وله مائة دينار، ثم صاحب الباب، وله مائة وعشرون ديناراً؛ ثم حامل السيف وحامل الرمح، ولكل منهما سبعون ديناراً، وبقية الأزمة على العساكر والسودان من خمسين ديناراً، إلى أربعين ديناراً، إلى ثلاثين. الرابع- فيه قاضي القضاة، وله في الشهر مائة دينار، وداعي الدعاة وله مثله؛ وقراء الحضرة، ولكل منهم عشرون ديناراً، إلى خمسة عشر ديناراً، إلى عشرة. الخامس- فيه أرباب الدواوين ومن يجري مجراهم. فأولهم متولي ديوان النظر، وله في الشهر سبعون ديناراً، ثم متولي ديوان التحقيق، وله خمسون ديناراً، ثم متولي ديوان المجلس، وله أربعون ديناراً، ثم متولي ديوان الجيوش، وله أربعون ديناراً، ثم صاحب دفتر المجلس، وله خمسة وثلاثون ديناراً، ثم الموقع بالقلم الجليل القائم مقام كاتب الدرج الآن، وله ثلاثون ديناراً. ولكل معين عشرة دنانير، إلى سبعة، إلى خمسة. السادس- فيه المستخدمون بالقاهرة ومصر في خدمة واليهما، ولكل واحد منهما ديناراً، وللحماة بالأهراء، والمناخات والجوالي والبساتين والأملاك وغيرها لكل منهم ما يقوم به من عشرين ديناراً، إلى خمسة عشر، إلى عشرة، إلى خمسة. السابع- فيه عدة الفراشين برسم خدمة الخليفة والقصور وتنظيفها خارجاً وداخلاً ونصب الستائر المحتاج إليها والمناظر الخارجة عن القصر، ولكل منهم في الشهر ثلاثون ديناراً فما حولها؛ ثم من يليهم من الرشاشين داخل القصر وخارجه وهم نحو ثلثمائة رجل، ولكل منهم من عشر دنانير إلى خمسة. الثامن- فيه الركابية ومقدموهم، ولكل من مقدميهم في الشهر خمسون ديناراً، وللركايبية من خمسة عشر ديناراً إلى عشرة إلى خمسة. وأما الطعمة- فعلى ضربين: الضرب الأول الأسمطة التي تمد في شهر رمضان والعيدين: أما شهر رمضان- فإن الخليفة كان يرتب بقاعة الذهب بالقصر سماطاً في كل ليلة استقبال الرابع منه، وإلى آخر السادس والعشرين منه، ويستدعي الأمراء لحضوره في كل ليلة بالنوبة، يحضر منهم في كل ليلة قومٌ كي لا يحرمهم الإفطار في بيوتهم طول الشهر، ولا يكلف قاضي القضاة الحضور سوى ليالي الجمع توقيراً له، ولا يحضر الخليفة هذا السماط، ويحضر الوزير فيجلس على رأ س السماط، فإن غاب قام ولده أو أخوة مقامه، فإن لم يحضرة أحدٌ منهم كان صاحب الباب عوضه. وكان هذا السماط من أعظم الأسمطة وأحسنها، ويمد من صدر القاعة إلى مقدار ثلثيها بأصناف المأكولات والأطعمة الفاخرة، ويخرجون من هناك بعد العشاء الآخرة بساعة أو ساعتين، ويفرق فضل السماط كل ليلة، ويتهاداه أرباب الرسوم حتى يصل إلى أكثر الناس، وإذا حضر الوزير بعث الخليفة إليه من طعامه الذي يأكل منه تشريفاً له، وربما خصه بشيء من سحوره. وأما سماط العيدين- فإنه يمد في عيد الفطر وعيد الأضحى تحت سرير الملك بقاعة الذهب المذكورة أمام المجلس الذي يجلس فيه الخليفة الجلوس العام أيام المواكب، وتنصب على الكرسي مائدة من فضة تعرف بالمدورة، وعليها من الأواني الذهبيات والصيني الحاوية للأطعمة الفاخرة ما لا يليق إلا بالملوك، وينصب السماط العام تحت السرير من خشب مدهون في طول القاعة في عرض عشرة أذرع، وتفرش فوقه الأزهار المشمومة، ويرص الخبز على جوانبه كل شأبورة ثلاثة أرطال من نقي الدقيق؛ ويعمر داخل السماط على طوله بأحد وعشرين طبقاً عظاماً، في كل طبق أحد وعشرون خروفاً من الشوي، وفي كل واحد منهما ثلثمائة وخمسون طيراً من الدجاج والفراريج وأفراخ الحمام، ويعبى مستطيلاً في العلو حتى يكون كقامة الرجل الطويل، ويسور بتشاريح الحلواء اليابسة على اختلاف ألوانها، ويسد خلل تلك الأطباق على السماط نحوٌ من خمسمائة صحن من الصحون الخزفية المترعة بالألوان الفائقة، وفي كل منها سبع دجاجات من الحلواء المائعة والأطعمة الفاخرة؛ ويعمل بدار الفطرة الآتي ذكرها قصران من حلوى زنة كل منها سبعة عشر قنطاراً في أحسن شكل، عليها صور الحيوان المختلفة، ويحملان إلى القاعة فيوضعان في طرفي السماط. ويأتي الخليفة راكباً فيترجل على السرير الذي قد نصبت عليه المائدة الفضة، ويجلس على المائدة وعلى رأسه أربعة من كبار الأستاذين المحنكين، ثم يستدعي الوزير وحده فيطلع ويجلس على يمينه بالقرب من باب السرير، ويشير إلى الأمراء المطوقين فمن دونهم من الأمراء، فيجلسون على السماط على قدر مراتبهم فيأكلون وقراء الحضرة في خلال ذلك يقرأون القرآن، ويبقى السماط ممدوداً إلى قريب منت صلاة الظهر حتى يستهلك جميع ما عليه أكلاً وحملاً، وتفرقةً على أرباب الرسوم. الضرب الثاني فيما كان يعمل بدار الفطرة في عيد الفطر: وكان لهم بها الاهتمام العظيم. وقد ذكر ابن عبد الظاهر أصنافها فقال: كانت ألف حملة دقيق، وأربعمائة قنطر سكر، وستة قناطير فستق، وأربعمائة وثلاثين إردب زبيب، وخمسة عشر قنطاراً عسل نحل، وثلاثة قناطير خل وإردبين سمسم وإردبين أنيسون وخمسين رطلاً ماء ورد، وخمس نوافج مسك، وكافور قديم عشرة مثاقيل، وزعفران مطحون مائة وخمسون درهماً، وزيت برسم الوقود ثلاثون قنطاراً. في أصناف أخرى يطول ذكرها. قال ابن الطوير: ويندب لها مائة صانع من الحلاويين، ومائة فراش برسم تفرقة الطوافير على أصحاب الرسوم خارجاً عمن هو مرتب فيها، ويحضرها الخليفة والوزير معه فيجلس الخليفة على سريره فيها، ويجلس الوزير على كرسي له في النصف الأخير من رمضان، وصار ما لها من السمتعملات كالجبال الرواسي، فتفرق الحلووى من ربع قنطار إلى عشرة أرطال إلى رطل واحد، والخشكنان من مائة حبة إلى خمس وسبعين حبة، إلى ثلاث وثلاين، إلى خمس وعشرين، إلى عشرين، ويفرق على السودان على يد مقدمهم بالأفراد من تسعة أفراد إلى سبعة إلى خمسة، إلى ثلاثة، كل طائفة على مقدارها بسماط يوم الفطر ما يمد في الإيوان الكبير قبل مد سماط الطعام بقاعة الذهب. وقد وقع في كلام ابن طوير خلفٌ في وقته، فذكر في موضع من كتابه أن ذلك يكون قبل ركوب الخليفة لصلاة العيد، وذكر في موضع آخر أن ذلك يكون بعد حضوره من الصلاة.
|